قابس تحت حصار الغازات السامّة: أكبر احتجاج بيئي في تاريخ تونس

تعيش مدينة قابس جنوب تونس منذ أيام على وقع احتجاجات متواصلة، وذلك على خلفية انبعاث غازات سامة من "المجمّع الكيميائي"، في مشهد أعاد إلى السطح واحدة من أكبر القضايا البيئية في تاريخ البلد.
وهذه الاحتجاجات هي الأولى من نوعها التي تشهدها المدينة منذ عام 2011، ويخرج سكان قابس منذ أيام في تظاهرات يومية للمطالبة بتفكيك وحدات المجمّع، فيما استعملت الشرطة الغاز المسيل للدموع لتفريق المحتجين ليلاً.
ولا يستبعد المحتجون إقرار الإضراب العام في حال عدم استجابة السلطات لمطالبهم.
وسجّلت المدينة في الأسابيع الأخيرة عشرات حالات الاختناق بسبب انبعاث غازات سامّة من المجمّع الكيميائي.
أخطر الملفّات البيئية
يُعدّ ملف المجمّع الكيميائي في قابس من أخطر الملفات البيئية في تونس، ولم تجد كل الحكومات المتعاقبة منذ إنشائه في سبعينيات القرن الماضي حلاً له، بسبب عجزها عن تحقيق التوازن بين معادلة البيئة والتشغيل.
وكان الرئيس التونسي قيس سعيّد قد دخل على خط هذه الأزمة، وأوعز بتشكيل لجنة من أجل القيام بتحقيق في حقيقة ما يجري في المجمّع واتخاذ الإجراءات اللازمة لحل الأزمة.
الصناعة على حساب الإنسان
لكن رغم أهمّيته في النسيج الاقتصادي، شكّل المجمّع مصدراً رئيسياً للتلوّث.
ويطالب السكان بتفكيك وحدات المجمّع الذي يُعدّ المصدر الأول للتلوّث في المدينة، ويقولون إنه يشكّل خطراً على صحتهم، مشيرين إلى ارتفاع عدد حالات الإصابة بمرض السرطان في المحافظة.
ويقول الناشط خير الدين دبية، لـ"النهار"، إن ما تعيشه المدينة ليس حادثاً عرضياً، بل هو نتيجة لسياسات تنموية قديمة فضّلت التنمية عبر التصنيع الملوِّث على حساب البيئة والإنسان.
ويؤكد أن النفايات غير المعالجة تسبّبت بتدهور التربة والمياه والهواء.
ويجمع سكان قابس، التي طالما شكّلت نظاماً بيئياً نادراً يجمع بين الواحة والبحر، على أن واحتهم التي كانوا يصفونها بـ"جنة الصحراء" تحوّلت إلى جحيم بسبب نفايات المجمّع التي أضرّت بالأرض وبالخليج.
ويوضح دبية أن هذه النفايات أضرّت بغابات النخيل وبأراضي زراعة الحنّاء، ما أجبر المزارعين على هجر أراضيهم، فيما يعاني الصيادون من تلوّث البحر ونفوق الأسماك.
ويؤكد أن سكان المدينة يطالبون بحقهم في العيش في بيئة سليمة، معتبراً أن ذلك لن يتم إلّا "بتفكيك وحدات هذه المصانع وإخراجها من المحافظة".
ويشدّد على أن التحركات الاحتجاجية متواصلة إلى حين تحقيق مطالب السكان، مؤكداً أنهم فقدوا ثقتهم بالوعود الحكومية المتكرّرة منذ عقود.
بدوره، يعتبر النائب في البرلمان التونسي محمد علي، في تصريح لـ"النهار"، أن الحق في العيش في محيط سليم هو حق دستوري.
ويوضح أن الاحتجاجات الأخيرة هي أكبر تحرّك شعبي من أجل البيئة في تاريخ تونس.
ويشارك النائب المحتجّين مطلبهم بتفكيك الوحدات الملوِّثة للمجمّع الكيميائي، داعياً إلى وضع خطة انتقال بيئي عادل تحفظ حق العمال في الشغل وحق الأهالي في الحياة.
كلفة مرتفعة
غير أن تفكيك وحدات المجمّع ليس بالعملية البسيطة، وفق العديد من المراقبين، ما يجعل السلطات عاجزة عن حلّ هذه الأزمة البيئية الخطيرة.
ويقول الخبير البيئي حسين الرميلي لـ"النهار" إن كلفة تفكيك أقل وحدة صناعية تبلغ نحو 1.7 مليار دولار، فيما يضمّ المجمّع 13 وحدة لإنتاج الفوسفات والفوسفوجين.
وفي تقديره، فإن تفكيك الوحدات ونقلها إلى منطقة أخرى يعني نقل مكان الأزمة دون حلّها.
ويشير الرميلي إلى أن المجمّع يعاني من صعوبات مالية تجعله غير قادر على تأهيل وصيانة معداته، لافتاً إلى أن الحل يجب أن يكون بقرار سياسي يحرص على وضع الاعتمادات المالية اللازمة لتوفير تقنيات متطورة للحد من التلوث.
وبين وعود التنمية وغياب العدالة البيئية، تقف قابس التونسية على حافة الاختناق، مطالِبةً بالحق في تنفّس هواء نظيف.