بين "تونس" و"La Tunisie"... بلد واحد بوجهين

بعدما كانت تُوصف لعقود طويلة بـ"صمام أمان البلد"، يثير تآكل الطبقة المتوسّطة في تونس المخاوف من تغيّر النسيج المجتمعي، بعدما أفرز واقعاً جديداً يقسم التونسيين إلى طبقتين واضحتين.
"بلد واحد وواقعان"، هكذا أصبحت الحال في تونس، حيث يتندّر البعض على الفوارق الطبقية مؤكدين أنّ هناك اليوم تونسيين ينتمون إلى "تونس"، وآخرين ينتمون إلى "La Tunisie"، كما يقول سائق سيارة تاكسي لـ"النهار" في توصيف ساخر للوضع الاقتصادي والاجتماعي.
السائق الذي يجوب يومياً شوارع العاصمة تحدّث عن الفوارق بين الأحياء قائلاً: "في المناطق الراقية تلاحظ أنّ الوجوه مبتسمة، الشوارع نظيفة، والملابس أنيقة، أمّا في الأحياء المهمّشة فالأوساخ منتشرة في كلّ مكان، وحالة البؤس يمكن تمييزها بسهولة على وجوه المارة".
نجلاء، موظّفة حكومية منذ 25 سنة، تقول بدورها لـ"النهار" إنها لم تعد قادرة على مجاراة الأسعار وغلاء المعيشة مقابل ضعف راتبها، خصوصاً أنّ تكلفة تعليم طفليها باتت تستحوذ على الجزء الأكبر منه. وكحال معظم موظّفي تونس الذين يُفترض أنهم ينتمون إلى الطبقة المتوسّطة، غرقت نجلاء في الديون ولم تعد قادرة على الاقتراض بعدما بلغت الحدّ الأقصى المسموح به.
تراجع كبير
أظهرت دراسة أعدّها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية حول "مشروع ميزانية 2024 وإشكاليات الاعتماد على الذات"، أنّ الطبقة المتوسّطة في تونس تراجعت منذ عام 2011 إلى نحو النصف؛ فبعدما كانت تمثّل حوالي 60% من السكان، لم تعد تتجاوز اليوم 30%.
وتؤكّد هذه المعطيات حجم الضغوط الاقتصادية التي تتعرّض لها هذه الشريحة، إذ تحمّلت الطبقتان المتوسّطة والفقيرة في عام 2023 "عبء الاعتماد على الذات"، وهو الخيار الذي انتهجته الدولة لتقليص الاقتراض الخارجي.
وأوضحت الدراسة أنّ نسبةً ضئيلة من أبناء الطبقة المتوسّطة التحقت بفئة الأغنياء، التي تعزّزت بصفوف "المهرّبين" وتجار الاقتصاد الموازي، فيما انزلقت النسبة الأكبر إلى الشرائح الضعيفة والمعوزة.
ضرب التوازن المجتمعي
لم يعد الحديث عن "تآكل الطبقة المتوسّطة" في تونس مجرّد توصيف اقتصادي، بل تحوّل إلى ظاهرة اجتماعية تمسّ جوهر التوازن المجتمعي.
فالطبقة التي شكّلت منذ الاستقلال في ستينيات القرن الماضي العمود الفقري للاستقرار السياسي والاجتماعي، تعاني اليوم من انكماش حادّ بسبب تدهور القدرة الشرائية وارتفاع كلفة المعيشة مقابل جمود الأجور.
وتضمّ هذه الطبقة الموظّفين في القطاعين العام والخاص، والحرفيين وأصحاب المهن الحرّة.
تقول المحلّلة الاقتصادية إيمان الحامدي، لـ"النهار"، إنّ المجتمع التونسي يعيش اليوم "انزلاقاً طبقياً خطيراً"، حيث لم تعد هناك حدود واضحة بين الطبقتين الفقيرة والمتوسّطة. وتوضح أنّ نمط عيش العائلات التي كانت تُحسب سابقاً على الطبقة المتوسّطة تغيّر بعدما غرقت غالبيتها في المديونية، مؤكّدةً أنّ تراجع نسبة التضخّم الأخيرة لا يعكس تحسّناً فعلياً في القدرة الشرائية للتونسيين.
أزمة سياسات
يتّفق الخبراء على أنّ الأزمة في تونس ليست ظرفية، بل هي نتاج تراكمات ممتدّة لعقود، تعمّقت بعد عام 2011 مع التركيز على التوازنات المالية بدلاً من العدالة الاجتماعية.
ومنذ ذلك الحين، تواصل الحكومات المتعاقبة إدارة الأزمات بشكل ظرفي من دون وضع رؤى أو استراتيجيات شاملة قادرة على حماية الطبقة المتوسّطة.
وقد أضرّ التوجّه التقشّفي الذي اتّبعته الدولة خلال العقد الأخير بالعائلات التونسية، بعدما أصبحت كلفة التعليم والصحّة مرتفعة جداً.
ويُجمع المراقبون على أنّ هذه السياسات أفرزت اليوم ثلاث طبقات واضحة: طبقة شديدة الثراء ونسبتها ضئيلة، وطبقة متوسّطة تتآكل باطّراد، وطبقة فقيرة آخذة في الاتّساع.
ويقول الخبير الاقتصادي عبد المجيد البدوي، لـ"النهار"، إنّ "معظم المنتمين إلى الطبقة المتوسّطة اليوم يعانون من الفقر وعدم القدرة على توفير مستلزمات العيش، ما يدفعهم إلى التداين المفرط". ويؤكّد أنّ هذه الطبقة شهدت تغيّراً جذرياً بعد تراجع خدمات الصحّة والتعليم والنقل، "القطاعات التي كانت تشكّل علامة فارقة في هويّتها".
ويحذّر الخبراء من تداعيات هذا التغيير على الاستقرار في البلاد، معتبرين أنّ الخطر لم يعد اجتماعياً فحسب، بل سياسي أيضاً. فكلّما تقلّصت الطبقة المتوسّطة، فقد النسيج المجتمعي توازنه، واقتربت تونس أكثر من حافة الهزّات الاجتماعية التي تعرفها جيّداً عبر تاريخها.