"الصحوة الإسلامية" بنسختها الرقمية... هل تتسلّل مجدّداً إلى قلب مصر؟
في سبعينيات القرن الماضي، ظهرت تيارات دينية عدة ارتبطت بما يسمى بـ"الصحوة الإسلامية". أطلق عامة المصريين عليها اسم "السُّنّية"، نظراً لقولهم إنهم يحافظون على "السنة النبوية"، وإنهم "أهل السنة والجماعة".
التسمية التي شاعت آنذاك ارتبطت بمظهرهم غير المألوف في أوساط المصريين: لحى كثيفة غير مهذبة، شوارب محلوقة، وجلابيب بيضاء قصيرة.
كانت وجوه شبابهم تبدو سمحة، تعلوها ابتسامة عريضة، أصواتهم خفيضة، وحديثهم يلقى قبولاً سريعاً لدى غالبية أبناء هذا الشعب المعروف بأنه "متدين بطبيعته".
في غضون أعوام قليلة، تمكنت تلك الحركات من الانتشار السريع، وشجعت نسبة كبيرة من المصريين المسلمين على الصلاة في المساجد التي ينشطون فيها. وكان الأمر في البداية مقبولاً، بل ومستساغاً لكثير من المصريين.
لكن مع تزايد أعدادهم وتوسع تأثيرهم، حدثت تحولات دراماتيكية سريعة وجوهرية في خطابهم وسلوكياتهم... تبدلت الابتسامات العريضة إلى عبوس، والأصوات الخفيضة تحولت إلى صرخات عالية عبر مكبرات الصوت في المساجد.
ومن عباءة التيار السلفي الدعوي خرجت تيارات جهادية مسلحة في وجه الدولة والمجتمع، ارتكبت مجازر أودت بحياة المئات، وتكلفت الدولة عشرات المليارات من الجنيهات وسنوات طويلة لدحرها. حدث ذلك مرتين: الأولى في حقبة التسعينيات، والثانية عقب إطاحة جماعة "الإخوان المسلمين" وحلفائها السلفيين من الحكم في العام 2013.
أدوات العصر
يستخدم السلفيون كل الأدوات المتاحة لنشر فكرهم، خصوصاً الأكثر حداثة. في الماضي، انتشروا بسرعة عبر أشرطة الكاسيت التي اقتناها المصريون على نطاق واسع بالتوازي مع صعودهم. واليوم يتكرر المشهد مع الهواتف الذكية ومواقع التواصل الاجتماعي. ويحذر متخصصون في حركات الإسلام السياسي من نسخة رقمية جديدة لـ"الصحوة الإسلامية" أكثر انتشاراً وخطورة.
أحد أبرز المحذرين، الباحث في الحركات الإسلامية عمرو فاروق، كتب سلسلة مقالات وتدوينات ينبه فيها إلى تغلغل السلفيين مجدداً في شرايين المجتمع عبر تكنولوجيا المعلومات. ويقول لـ"النهار": "بعدما سيطرت الدولة في السنوات الماضية على مساجد التيارات السلفية ووضعت قواعد للصعود على المنبر، نقل السلفيون أنشطتهم كافة إلى مواقع التواصل الاجتماعي".
ويرى بعض المهتمين أن ذلك يتم تحت أعين الدولة وأجهزتها الأمنية، فيما يعتبر آخرون أنه يجري بتشجيع مقصود لمواجهة "الإخوان المسلمين". لكن فاروق يؤكد أن "الإشكالية الحقيقية أن السلفيين ليسوا تنظيماً واحداً له رأس، بل هم تيار فكري واسع ومتنوع، وله قيادات عدة، لذلك يصعب السيطرة عليهم".
ورغم قناعته بأن الدولة ليست طرفاً مباشراً، يشدد فاروق على ضرورة أن "تضع الحكومة ضوابط لاستخدام مواقع التواصل والإنترنت في بث الخطاب الديني المتشدد، لأنه يشكل خطراً حقيقياً".
العارض والمرض
يتفق الكاتب المهتم بالتراث الإسلامي رامي يحيى على أن الدولة اتخذت خطوات لتحجيم نشاط تلك التيارات، لكنها برأيه تركز على محاربة الإرهابيين دون محاربة التطرف الديني، ويقول لـ"النهار": "الدولة هنا تعالج العارض وتترك المرض يتفشى".
ويضيف: "النظام الحاكم يزايد على المتشددين دينياً، ويحاول أن يبدو أكثر تديناً منهم. هم يبنون مسجداً، فيبني هو أكبر مسجد. ويفتح المجال لرجال الدين في مجالات بعيدة عن تخصصهم، مثل استضافتهم في وكالة الفضاء الرسمية للحديث عن فقه النوازل في الفضاء! فما علاقة رجال الدين بالفضاء؟".
ويخالف يحيى الرأي القائل بأن السلفيين غابوا عن الأرض، مؤكداً أنهم "منتشرون بوضوح: أعداد المنقبات في ازدياد، مشاجرات بسبب الدعوة للنقاب في وسائل النقل، وحتى الفني الذي يبرمج أجهزة الاستقبال يضع القنوات السلفية في المقدمة. إنهم موجودون والدولة تعزز وجودهم بشكل مباشر أو غير مباشر".
عودة الإرهاب؟
في نسختها الأولى، بدأت "الصحوة" بوجه متسامح وحذر، لكن دعاة اليوم يتسابقون في ميدان التحريم والتشدد بثقة أكبر، رغم حرصهم على الظهور بمظهر عصري وامتلاك أحدث السيارات والهواتف. وربما ساعدهم على ذلك أن عقولاً كثيرة مهيأة لتقبل خطابهم من دون نقاش، باعتباره "صحيح الدين"، فيما يُعتبر العقل قاصراً أو وفق وصف أحد مشايخ السلفي ."مثل الحمار الذي يجب أن تركنه جانباً عند الخوض في أمور الدين".
ويحذر فاروق من تكرار التجربة قائلاً إن "نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك كان يقول إنه ضد التنظيمات وليس ضد الدعوة، ففتح المجال للسلفيين للانتشار عبر المساجد والتلفاز، ثم ركب الإخوان الموجة واستفادوا، فشهدنا ما شهدناه من عنف وسفك دماء. واليوم ما زلنا نعاني من تلك التركة، وعلينا أن نتعلم من دروس الماضي."
ورغم نجاح أجهزة الأمن المصرية في دحر التنظيمات السلفية المسلحة مرتين في الماضي، فإن المواجهة اليوم قد تكون أكثر تكلفة وأقل ضماناً للنتائج، خصوصاً وسط محيط إقليمي ملتهب يطوّق مصر من كل الاتجاهات.
نبض