"الطوفان البشري" في الساحل السوري: ضغط الشارع وحدود الاحتواء
انتقل ملفّ الساحل السوري من خانة الاحتجاجات المحدودة إلى عتبة أكثر حساسية، لا بفعل تراكم بطيء، بل نتيجة تسارع حادّ في الوقائع والخطابات معاً. الدعوة إلى "طوفان بشري" في الشارع، التي أطلقها رئيس المجلس الإسلامي العلوي الأعلى في سوريا والمهجر الشيخ غزال غزال عقب تفجير حمص، جاءت في لحظة بدا فيها أنّ الإيقاع يقترب من نقطة اختبار، ليس للساحل وحده، بل للمشهد السوري الأوسع، في ظل تعثّر تنفيذ اتفاق دمشق – "قسد"، واستمرار انسداد الأفق السياسي في السويداء.
وشهدت مناطق ذات أغلبية علوية في محافظات اللاذقية وطرطوس وحمص وحماة خروج آلاف المتظاهرين رافعين شعار "لا نريدها حرباً أهلية… نريدها فيدرالية سياسية"، إلى جانب مطالب بوقف الانتهاكات، والإفراج عن المعتقلين، وإعادة المفصولين إلى أعمالهم، وصرف مستحقات المتقاعدين العسكريين. وما يسترعي الانتباه في هذه الشعارات ليس تنوّعها بحدّ ذاته، بل محاولة جمع الاجتماعي والمعيشي والسياسي في سلّة واحدة، بما يوحي بأن الاحتجاج تجاوز الرمزية إلى طرح حزمة مطالب يصعب احتواؤها بإجراءات جزئية.
على الأرض، ظهرت مقاربات أمنية متباينة. ففيما تحدّثت روايات ميدانية عن ملاحقات ومنع للتجمعات وإطلاق نار في الهواء في اللاذقية وجبلة، نقلت "الإخبارية السورية" عن قائد الأمن الداخلي في محافظة اللاذقية العميد عبد العزيز الأحمد اتهاماً بوقوع "اعتداء من عناصر إرهابية تابعة لفلول النظام البائد" على عناصر الأمن، وما ترتّب عليه من إصابات وأضرار. في المقابل، قالت الصفحة الاحتياطية لـ"المجلس الإسلامي العلوي الأعلى في سوريا والمهجر" إن "سلطات الأمر الواقع اعتدت بالضرب والرصاص لمنع المحتجّين من المطالبة بحقوقهم في اللاذقية–جبلة". هذا التضارب لا يعكس اختلافاً في الروايات فحسب، بل صراعاً على تعريف الحراك نفسه، بين من يراه احتجاجاً سياسياً مشروعاً، ومن يسعى إلى تأطيره كتهديد أمني يبرّر أدوات استثنائية في التعامل معه.
اتهامات الشيخ غزال
جاءت هذه التظاهرات استجابةً لدعوة وجّهها الشيخ غزال في كلمة مصوّرة هي الثانية له خلال ثلاثة أيام. وقدّم غزال توصيفاً بالغ الحدّة لما يجري بوصفه "قتلاً على الهوية" و"حرب إبادة ممنهجة"، داعياً المجتمع الدولي إلى تحمّل مسؤولياته وفرض حماية دولية وحلول جذرية. أهمية هذا الخطاب لا تكمن في لغته وحدّتها فقط، بل في معادلته الضمنية: السلمية تُطرح كخيار واعٍ، لكنها ليست انتظاراً مفتوحاً بلا أفق، والشارع يُعاد تقديمه كأداة ضغط سياسية حين يغيب الرد.
وكان غزال قد مهّد لهذا السقف قبل أيام، في بيان مصوّر قال فيه إن "أمن الفرد من أمن الجماعة"، مضيفاً أن "السلمية لا تعني صبراً مفتوحاً إلى ما لا نهاية"، في إشارة واضحة إلى تضاؤل هامش الانتظار وقناعة متزايدة بأن الرهان على استجابة سياسية قريبة بات محدوداً.
بعد ساعات قليلة من ذلك البيان، وقع تفجير مسجد "الإمام علي بن أبي طالب" في حي وادي الذهب بمدينة حمص أثناء صلاة الجمعة، بعبوة زُرعت مسبقاً وفق الرواية الأمنية، في منطقة ذات حمولة رمزية وهويّة واضحة. وقد أعاد التفجير إلى الواجهة مخاوف قديمة–جديدة من عودة العنف الجهادي المنظّم في مرحلة انتقالية لم تستقر بعد أمنياً. ولا تتوقف خطورته عند كونه استهدافاً ذا بعد طائفي مباشر، بل تتجاوزها إلى وظيفته السياسية: إعادة ترتيب الأولويات باتجاه الأمن، والضغط على الحراك الاحتجاجي، ووضع السلطة في موقع اختبار لقدرتها على الضبط في لحظة انتقالية حسّاسة.
وفي بيانين متتاليين صدرا باسم "سرايا أنصار السنة"، وتحت عنوان "بيان من القيادة العامة"، أعلنت الجماعة مسؤوليتها عن التفجير، قبل أن توسّع لاحقاً دائرة التهديد. ولم يقتصر البيان الأول على الإقرار بالفعل، بل تحدّث عن "مرحلة جديدة" من العنف مستخدماً لغة عقائدية لتبرير الضربات المقبلة. أمّا البيان الثاني فركّز على نفي استهداف دور العبادة، واصفاً المسجد بأنه "معبد نصيري"، مع التشديد على استقلالية الجماعة عن تنظيم "داعش"، رغم التقاطع العقائدي. هذه الصيغة تُخرج التفجير من كونه حادثة مغلقة، وتضعه ضمن مسار عنف مفتوح يسعى إلى تكريس منطق الردّ والردّ المضاد، في توقيت يضاعف أثره السياسي والأمني.
قبل ذلك، كانت السلطة قد حاولت احتواء التصعيد، أبرزها لقاء جمع الرئيس السوري أحمد الشرع بوفد من الساحل للمرة الأولى منذ سقوط نظام بشار الأسد. لكنّ غياب نتائج ملموسة على الأرض أبقى التوتر قائماً، وجعل تفجير حمص يُقرأ أيضاً كأداة لخلط الأوراق داخلياً وخارجياً، ولا سيما حين يُوضع إلى جانب حوادث أمنية أخرى متقاربة زمنياً، ما يوحي بارتفاع نوعي في مستوى العنف، لا مجرد تكراره.
مسارات توتّر
يتقاطع هذا كله مع مشهد داخلي أكثر تعقيداً يتّسم بعدم حسم شكل الدولة في المرحلة الانتقالية. فبالتوازي مع تصاعد الاحتجاجات في الساحل، تتزامن مسارات توتر أخرى في شرق الفرات والسويداء، حيث تُطرح أسئلة حادّة بشأن التمثيل السياسي وحدود المركز. وقد سبق لهذه الأطراف أن التقت في مؤتمر "وحدة الموقف" في الحسكة في آب/أغسطس الماضي، وهي الخطوة التي وُصفت حينها بـ"حلف أقليات". وحتى في غياب دليل على تنسيق مباشر، فإن التزامن يظلّ هاجساً قائماً لدى دمشق، وقد يجعل ارتفاع الصوت العلوي عاملاً مؤثراً في الخريطة الداخلية وموازين القوى، أو على الأقل في كيفية إدارتها.
وهكذا، لا يمكن قراءة الدعوة إلى "الطوفان البشري" كحدث منفصل، ولا تفجير حمص كحادثة عابرة. الاثنان جزء من تسارع واحد يضغط على الجميع في وقت واحد: محتجون يحاولون تثبيت السلمية بسقف سياسي مرتفع، وسلطة تسعى إلى الاحتواء من دون ضمانات كافية، وفاعلون عنيفون يراهنون على الاستدراج وكسر الإيقاع. في بلد تتزاحم فيه الأزمات وتُطرح فيه أسئلة شكل الدولة دفعة واحدة، يبدو أن الجميع يتحرّك تحت ضغط الوقت، من دون ترف اليقين.
نبض