يوم زُرنا بيت لحم وشوارعها وحاراتها... هنا وُلد يسوع منذ 2025 عاماً!
منذ 2025 سنة، تاريخ لم يمُت وعظمة حدث نقلتها السنين، عن طفل وُلد في مزود ومغارة وفي مدينة فلسطينية تاريخية: بيت لحم. لم يُكتب لنا أن نزور هذه المدينة في أرض فلسطين المجروحة والمعذّبة فنواسي أنفسنا في مغارة داخل كل منزل، نبنيها بتأنٍ، نُضيئها، نزيّنها، نتصوّر تفاصيلها وكيف كانت، لعلّها تُشبه مغارة ولادة يسوع.
العيد هذا العام مختلف. رحلة إلى بيت لحم نُفّذت بمساعدة مراسلة "النهار" الفلسطينية مرال قطينة وصولاً إلى كنيسة المهد. مشهد مكتوب يصوّر حدث ليلة عيد الميلاد "الوطني" في فلسطين. نمشي في شوارع بيت لحم (جنوب الضفة العربية) وحاراتها وأزقّتها، نسلك طرقات ربّما سلكها المجوس والرعيان منذ 2025 سنة. طبعاً المشهد الجغرافي تغيّر، الطرقات والمسارات والأبنية... وبوجود احتلال إسرائيلي.
وطالما أن هذا المشروع يبقى حلماً معلّقاً، فلنتصوّر ونكتشف ونتأمّل بفرح وشوق، لعلّ هذا العيد يكون مختلفاً فعلاً...
رحلة الوصول تبدأ...
من القدس إلى بيت لحم (تبعد عنها نحو 10 كلم جنوباً)، نمر من باب الخليل. تاريخياً، هو بوابة القدس القديمة (البلدة القديمة) باتجاه الجنوب الفلسطيني: بيت لحم والخليل. وفق خريطة فلسطين، تأتي القدس في المركز تليها بيت لحم وبعدها الخليل.

هناك شارعان من باب الخليل يوصلان إلى مدخل بيت لحم المعروف بـ"قبة رحيل": شارع الخليل وشارع بيت لحم.
حول مدينة بيت لحم، 3 حواجز: حاجز الـ300 أو "قبة رحيل" أو منطقة الطنطور (تسمية فلسطينية)، حاجز الأنفاق الذي يأتي من بيت جالا، حاجز المزمورية الذي يأتي من بيت ساحور. (أهل القدس والسيّاح يدخلون منها)، وأهم 3 مدن في محافظة بيت لحم هي: بيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور. هي مدن مسيحية إلّا أن اليوم نسبة المسيحيين فيها أقل بكثير من الموجود سابقاً.
من رام الله أيضاً، الطرقات تغيّرت مع وجود المستوطنات الإسرائيلية، ففي الطريق تصادف مستوطنات أرنونا، بتلبيوت، جبل أبو غنيم.
جغرافيا وديموغرافيا
تحافظ بيت لحم على بساطتها، على جمالها وبيوتها القديمة. تضم 14 كنيسة وما بين أديرتها وكنائسها التاريخية، أجواء خشوع وصلاة وتمسّك بالإيمان. من أهم شوارعها طريق الخليل، الشارع الجديد، شارع بيت ساحور، شارع بولس السادس، شارع السينما، شارع الفرير، شارع جمال عبد الناصر. تحدُّها من الجهّة الغربيّة مدينتا الدوحة وبيت جالا، من الشمال مدينة القدس وقرية صور باهر، من الشرق مدينة بيت ساحور، أمّا من الجنوب فتحدُّها قرى الخضر وأرطاس وبرك سليمان.
قديماً لا أنفاق ولا حواجز تعيق الوصول إلى هذه المدينة التاريخية. بالتأكيد أراد يسوع بيت لحم بدون حواجز ولا قيود. أرادها مدينة تصدّر السلام من هذه البقعة الجغرافية إلى كل العالم. أرادها مدينة بسيطة تجسّد ولادته البسيطة. أرادها مدينة بدون ألم ولا عذاب...
بشكل يختلف عن الأبنية والبناء في القدس تحديداً، تحافظ المدن الفلسطينية بشكل عام على قِدمها: البيوت العربية الجميلة المبنية بالحجر الأبيض والسيراميك على الأبواب وشبابيكها على شكل أقواس. عند مدخل كل بيت، حديقة أو (جنينة) صغيرة فيها شجر الليمون والبرتقال واللوز والرمان والورد الجوري والياسمين والزنبق.
لا يغيب صوت الأذان عن المدينة، حيث إن ساحة تفصل بين كنيسة المهد ومسجد عمر ابن الخطاب...
قصّة حاجز وجدار...
يخنق الجدار الإسرائيلي المشيّد عام 2002 بيت لحم، فيحيطها من جميع الجهّات وهذا ما أثّر على السياحة فيها والحج المسيحي أيضاً بالإضافة إلى الوضعين السياسي والاقتصادي فأصبحت الأمور أصعب بالنسبة لسكّانها وزادت القيود.

جداريات ورسومات تعبّر عن الحصار والوضع الذي يعيشونه والتوق إلى الحريّة والحياة الطبيعية. يوم زارها البابا الراحل فرنسيس عام 2014، توقّف عنده ووضع يده عليه وصلّى. من مدينة ولادة يسوع، أراد البابا المتواضع أن تكون زيارته رسالة إنسانية، إنسانية فقط!
أمّا حاجز الـ300، فهو معبر أكثر من حاجز ظاهرياً، إذ يعاني الفلسطينيون (حاملو هويات السلطة الفلسطينية خاصّة) بسببه قيوداً صارمة وقوانين من قبل الإسرائيليين تعيق حرّيتهم وتحرّكاتهم.
كانت تغطّي حقول الزيتون مساحة المدينة على الجهّتين، ولا أبنية تحجب مشاهد الجبال الخلّابة. تمر من بيت صفافا، المدينة المختلطة بين مسيحيين ومسلمين، وهي الأقرب إلى بيت لحم وصلة الوصل. تغيّرت الجغرافيا والطرقات والمعالم وزادت الحفريات بفعل وجود المستوطنات وإقامة مستوطنات جديدة.
البلدة القديمة في بيت لحم، بيوت جميلة وشوارع شعبية وأثرية وحارات من أشهرها حارة الفواغرة. طريق الحسبة وشارع البسطات، تؤدي إلى البلدة القديمة وصولاً إلى بطريركية اللاتين وحارة السريان، وكنيسة مار شربل. محلات تجارية تعجّ بالناس، حيث تعيش حياتها اليومية وسط كل هذه الصعوبات.
أقدم كنائس العالم...
محطّة الرحلة الآن في ساحة كنيسة المهد وشوارعها. ساحة تضج بالحياة والإيمان. منذ أيام، ارتفعت شجرة الميلاد فيها. ساحة منظَمة، صغيرة، بسيطة، تعبّر عن التاريخ الفلسطيني. وفيها، تجتمع لغات دول العالم.
على يد قسطنطين الأكبر عام 330، بُنيت كنيسة المهد، أقدم كنائس العالم. هُدمت مرّات عدّة وأُعيد بناؤها، وجرى ترميمها أخيراً عام 2012.
بُنيت على شكل صليب وعلى سقفها القبّة والصليب يرتفعان بجانب أجراسها. حجرها الخارجي قديم، مدخلها صغير تنحني للدخول إليها، في مشهد رمزي للانحناء أمام القربان المقدّس. وداخلها، عظمة المكان تكفي: بناء قديم وحجر قديم أيضاً بأرضيّتها، أعمدة وزخرفات ورسومات، مباخر متدلّية تفوح منها رائحة البخور وثريات من الشمع للإنارة...
يتحدّث جزء من الذاكرة الشعبية المسيحية في بيت لحم عن سقف الكنيسة العالي، والذي يُقال إنّه من خشب أرز لبنان...
وللعمود المثقوب على شكل صليب داخل الكنيسة قصّة، يروي فيها حماية الكنيسة من هجوم قديم، مع خروج سرب من الدبابير من الثقوب ومنع الغُزاة من اقتحام الكنيسة، في معجزة حمَت المكان.
أمّا المذبح فقصّة أخرى: كبير ومليء بالأيقونات. جمال وتواضع في الوقت نفسه...

هنا وُلد المسيح...
ختام الرحلة الاستثنائية استثنائي، من مكان أشرق منه "نور العالم". في دهليز تحت أرض الكنيسة، عشرات الدرجات تفصِلك عن مكان ولادة يسوع. إلى مغارة صغيرة متواضعة يغطّيها رداء. أرضيّتها من الحجر، تحيطها شموع ومباخر. ومكان ولادة يسوع تحديداً، وُضعت نجمة فضّية كُتب عليها باللاتينية "Hic De Virgine Maria Jesus Christus Natus Est 1717 AD"، وتفسيرها: "هنا وضعت العذراء مريم ابنها يسوع المسيح 1717م".
ومن هناك إلى السرير أو المزود الذي حضَن يسوع. مكان يملؤه الخشوع ومُضاء بالشموع، فهو المسيح النور الذي لا ينطفئ...
ليل 24 كانون الأول/ديسمبر، كل بيوت مدينة بيت لحم مضاءة ترحيباً بيسوع. جمعةُ العائلات لم يلغِها الاحتلال ولا الحصار ولا القيود... عشاء وفق التقاليد: محاشي وشوربة العيد. فرح ورجاء بقدوم "ربّ السلام".
نبض