مسوّدة لإنقاذ اتفاق دمشق - "قسد" قبل نهاية العام: لامركزية بلا ضمانات دستورية
بعد أكثر من عام على سقوط نظام بشار الأسد، لا تزال سوريا تواجه تحديات جوهرية في إعادة بناء الدولة وتثبيت الهويّة والتماسك المجتمعي، لتبرز العلاقة بين الحكومة في دمشق بقيادة أحمد الشرع وقوات سوريا الديموقراطية (قسد) بوصفها الاختبار الأكثر تعقيداً أمام العملية السياسية الشاملة.
شكّل اتفاق 10 آذار/ مارس 2025، الذي وقعه الشرع مع قائد "قسد" مظلوم عبدي في دمشق، لحظة فارقة، لناحية توقيته بعد أحداث الساحل، ونتائجه المتمثّلة بالوقف الشامل لإطلاق النار، ودمج مؤسسات "قسد" المدنية والعسكرية في مؤسسات الدولة، والاعتراف بحقوق جميع السوريين في المشاركة السياسية دون تمييز، بمن فيهم الأكراد. لكن مع اقتراب نهاية مهلة تنفيذ الاتفاق المحددة بنهاية العام الجاري، يمكن القول إن المسار أطول وأكثر تعقيدًا من مجرد التزام رسمي.
من اتفاق تاريخي إلى مسودة التنفيذ
مثّلت فكرة دمج "قسد" في الدولة السورية حلماً سياسياً وسط تناقضات جوهرية منذ الأيام الأولى. فالاتفاق السياسي لم يصحب بتفاصيل عملية حيال كيفية دمج القوات المسلحة الذاتية لـ"قسد" في الجيش السوري الجديد المكوّن من فصائل متعددة الإيديولوجيا والولاء، وكيفية إدارة الموارد والحقوق المحلية، أو صياغة ضمانات دستورية تحمي حقوق الأكراد والمكوّنات الأخرى داخل بنية هذه القوات ومناطق سيطرتها.
ومع قرب انتهاء المهلة المعلنة من قبل واشنطن لتنفيذ الاتّفاق، وفي ظل الانسداد الذي عانى منه المسار خلال الأشهر الأخيرة، كشف الرئيس المشترك لمكتب العلاقات في "مسد" (الجناح السياسي للإدارة الذاتية) حسن محمد، عن مسودة اتفاق قدّمتها دمشق قبل أيام في محاولة فعلية لحسم الخلافات جزئياً، ولكن الأهم، لإنقاذ الاتّفاق وإيجاد الفرصة للإعلان عن تقدّم جوهري، في ساحة اختبار حقيقي لإرادتين مختلفتين في بناء الدولة السورية الجديدة.
بالنظر إلى بنودها، فإن المسودة التي قُدمت من قبل دمشق اعترفت عملياً بأن تفكيك "قسد" بالكامل ليس خياراً واقعياً، وبدلاً من ذلك اعتمدت دمشق صيغة دمج تدريجي في إطار الجيش الوطني السوري، مع المحافظة على وجود ثلاث فرق عسكرية رئيسية موزعة على الرقة ودير الزور والحسكة، وخضوع هذه الفرق لوزارة الدفاع والقيادة العامة.
هذا الترتيب يعني تحوّل "قسد" من قوّة مستقلة إلى قوة مندمجة داخل الجيش السوري، وهو ما يمثل تحولاً استراتيجياً في طبيعة العلاقة بين الطرفين.
الوجود النسبي لوحدات مثل الكتيبة النسائية ووحدة القوات الخاصة في المسودة يعكس إدراك دمشق للحساسية الرمزية المرتبطة بهذه الكيانات داخل المجتمع الكردي، لكنه في المقابل يحد من قدرتها على أن تكون تنظيمات مستقلة بصلاحيات تنفيذية خارج نطاق القيادة العسكرية المركزية للدولة.
وكان اتّفاق 10 آذار قد أفضى سابقاً إلى تحرّكات على الأرض من قبيل انسحابات من حلب نحو شرق الفرات وإعادة تنظيم وحدات "الأسايش" كجزء من الأمن العام بإشراف السلطات المركزية، مع إطلاق سراح أسرى متبادل بين الطرفين، ما يشير إلى أنه رغم البطء، تم إنجاز خطوات عملية في هذا المسار سابقاً، وبالتالي يرفع من احتمالات نجاح الاتفاق مستقبلاً.

لامركزية إدارية
إحدى القضايا الجوهرية التي لا تزال موضوع خلاف بين الطرفين: نظام الحكم. تشير التسريبات بشأن المسودة إلى استعداد دمشق لمنح الإدارة الذاتية لامركزية إدارية في محافظات شمال وشرق سوريا بصلاحيات موسعة لإدارة شؤونها في مجالات التعليم والصحة والخدمات المحلية.
تبدو هذه الصلاحيات الإدارية الكبيرة محاولة لتهدئة المخاوف من مركزية مطلقة في دمشق، لكنها تظل ضمن سيادة الدولة السورية، التي تحتفظ بالقرار النهائي في الملفات السيادية الأوسع مثل السياسة الخارجية، الأمن القومي، والموارد الاستراتيجية.
هذا التوازن بين الصلاحيات المحلية الواسعة والمركزية القوية يثير تساؤلات عما إذا كانت اللامركزية المقترحة ستلبي مطالب "قسد"، خصوصاً وأن بعض الأطراف داخل الإدارة الذاتية تؤكد باستمرار بأن اللامركزية، بلا ضمانات دستورية واضحة، يمكن أن تكون حبراً على ورق عند أول أزمة سياسية.
تؤكد دمشق استعدادها لإدخال تعديلات دستورية تكفل حقوق جميع السوريين دون الإشارة بوضوح إلى حقوق الأكراد الثقافية واللغوية، مع إشارات إلى إمكانية اعتماد اللغة الكردية كلغة تعليم ثانوية في المناطق ذات الغالبية الكردية. يمكن اعتبار ذلك تقدّماً في تاريخ العلاقات بين الدولة السورية والمكوّن الكردي، لكنه يبقى مشروطاً مركزياً بالاحتفاظ بوحدة الدولة ورفض أي نموذج للحكم الذاتي أو اللامركزية السياسية.
لا شك أن التعديلات الدستورية تعتبر حجر الزاوية في مستقبل العلاقة بين دمشق و"قسد"، خصوصاً وأن الكثير من المحللين الموالين للإدارة الذاتية يرون بأن أي اندماج عسكري أو إداري لا يستند إلى إطار دستوري واضح سيكون عرضة للانهيار سريعاً تحت ضغط سياسي أو أمني، وهو السبب الذي يدفع بـ"قسد" للتركيز خلال جولة مفاوضاتها على ضرورة تضمين هذا البعد في صلب الاتفاق، واعتباره ضمانة أساسية للاستقلال عن أي عودة إلى سياسات مركزية تقليدية.
تشير المصادر التي تواصلت معها "النهار" داخل "قسد" إلى توجّه قائم على التعامل مع المسودة بوصفها فرصة تاريخية لحماية المكتسبات، مع الإصرار في الوقت ذاته على الحصول على ضمانات لاستمرار التفاوض على جوهر الاختلاف والمتمثّل بالإطار الدستوري ومطالب دمقرطة المجتمع السوري.
ووفق المصادر، فإن القادة في الإدارة الذاتية يرون بأن نجاح المسودة وإكمال تنفيذها إلى جانب تمكين التحالفات الداخلية والخارجية يمكن أن يعزز موقعها السياسي والاجتماعي داخل سوريا الجديدة، ويعتمد هذا التوجه على قراءة معقدة للمشهد الإقليمي، حيث لا تزال القوى الدولية، وخاصة الولايات المتحدة، تحتفظ بنفوذ مباشر على عملية السلام السورية.
ضغط سياسي وتحذير تركي مستمر
وتبقى تركيا اللاعب الإقليمي الأكثر حساسية تجاه ملف "قسد"، معتبرة إياها خطراً أمنياً. تصريحات مسؤوليها، خصوصاً وزير الخارجية هاكان فيدان، عن نفاد الصبر تجاه التأخير في تنفيذ اتفاق 10 آذار، مع ربط فتح المعابر الحدودية بتنفيذ الاندماج، تشير إلى أن أنقرة لا تزال تنظر إلى الاندماج كوسيلة لإنهاء "قسد" أكثر من كونه تسوية سياسية.
وتظهر التصريحات والتحركات داخل الأغلبية السياسية في تركيا، وآخرها تصريحات زعيم حزب الحركة القومية دولت بخجلي، التي ألمحت إلى إمكانية عمل عسكري مشترك ضد "قسد" في حال عدم الامتثال الكامل، أن تركيا لا تزال تمسك بورقة "التهديد العسكري" كجزء من استراتيجيتها الخاصة بالشمال السوري، وهو ما يعقّد مهمة تنفيذ الاتفاق ويزيد من مخاطر الفشل.
في المقابل فإن زيارة الرئيس الشرع إلى واشنطن ولقاءه الرئيس دونالد ترامب، وإلغاء العقوبات على سوريا، مثلت دفعة سياسية للحكومة الانتقالية. لكنها جاءت في ظروف لا يزال فيها الموقف الأميركي من "قسد" في حالة تذبذب.
وبعد الضغط الذي شكّلته تصريحات المبعوث الأميركي الخاص توم برّاك بأن "الفيدرالية لم تنجح في المنطقة" على "قسد" والدروز والعلويين وغيرهم من الأطراف الرافضة لمركزية الحكم في سوريا، جاء هجوم تدمر الذي أسفر عن مقتل وجرح جنود أميركيين ليبعثر الأوراق مجدّداً، ويشدّد على ضرورة استمرار الشراكة مع "قسد" والتريث في مسار الدمج.
وفي نهاية عام 2025، لا يزال السؤال مفتوحاً: هل ستحقق دمشق و"قسد" اندماجاً استراتيجياً أم ستبقى هذه الخطوة ضمن حدود إنجاز شيء ما قبل انتهاء المهلة؟
نبض