"قسد" ودمشق على مفترق طرق: 3 سيناريوات تحكم مستقبل العلاقات
مثّل اتفاق 10 آذار/مارس الموقّع بين الرئيس السوري أحمد الشرع والقائد العام لـ"قوات سوريا الديموقراطية" مظلوم عبدي تحوّلاً محورياً في الملف السوري آنذاك، لناحية توقيته الذي جاء بعد مجازر الساحل السوري وأهدافه المتمثّلة في دمج "قسد" عسكرياً وإدارياً في الدولة السورية الجديدة، وإنهاء أكثر من عقد من الانفصال الفعلي في شمال شرق البلاد.
لكن بعد عام، لا يزال الاتفاق معلقاً بين الوعود والواقع، وبين التفاهمات الشفهية والخطوات العملية، ما يزيد من الشكوك حيال إمكانية إتمام بنوده مع انتهاء المهلة المحددة لتنفيذه حتى نهاية عام 2025.
فاعل سياسي لا يمكن تجاهله
مع سقوط نظام بشار الأسد في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، برزت "قسد" كقوة تسيطر على نحو ثلث مساحة سوريا، تحتضن حقول النفط والغاز الرئيسية، وتحرس عشرات آلاف السجناء من تنظيم "داعش"، وفرضت نفسها كفاعل لا يمكن تجاهله من قبل السلطة الجديدة الساعية لاستعادة السيطرة الكاملة على الأراضي وإعادة بناء جيش وطني موحد.
هكذا جاء اتفاق 10 آذار بعد مفاوضات متقطعة ولقاءات علنية وسرّية وجلسات توسطت فيها الولايات المتحدة التي أدركت أن أي حل في سوريا لن يكون كاملاً من دون تسوية مع الأكراد وحلفائهم العرب في شمال البلاد وشرقها.
تشير القراءة لما بين سطور الاتفاق إلى دمج كامل لقوات "قسد" في الجيش السوري تحت قيادة وزارة الدفاع في دمشق، مع الحفاظ على وجود إداري محلي خاضع للدولة السورية في مناطق الإدارة الذاتية السابقة، وتنسيق أمني مشترك لمكافحة الإرهاب، وإدارة مشتركة للسجون التي تضم آلاف المقاتلين الأجانب، وتسليم بعض القواعد العسكرية والبوابات الحدودية وحقول الطاقة تدريجياً للحكومة المركزية.
لكن الاتفاق لم يُترجم حتى اليوم إلى وثيقة تنفيذية. في دمشق، يردد مسؤولون بأن "الأمور تحتاج وقتاً"، وأن "الأولوية هي لتوحيد المؤسسات قبل الدخول في تفاصيل إدارية"، لكن هذا التبرير لا يقنع الكثيرين في الحسكة ودير الزور والرقة.
يعاني الاتفاق وطأة انعدام الثقة بين الطرفين. تخشى "قسد" أن يكون الدمج نهاية لمكتسباتها التي دفعت ثمنها دماء عشرات الآلاف من مقاتليها في الحرب ضد "داعش"، فيما تتوجّس دمشق من أن يتحول أي اعتراف باللامركزية إلى بوابة لتقسيم فعلي في المستقبل، ناهيك عن العقبة التركية التي لا يمكن تجاوزها من دون إتمام مسار السلام بين أنقرة والحركة السياسية الكردية.

العقبة التركية
ترى أنقرة في وحدات حماية الشعب (YPG)، العمود الفقري لـ"قسد"، امتداداً لحزب العمال الكردستاني. وفي السابع من كانون الأول/ديسمبر، قال وزير الخارجية التركي هاكان فيدان صراحة إن "قسد لا تظهر أي نية للالتزام بالاتفاق"، بالتزامن مع دخول قوافل عسكرية تركية كبيرة إلى شمال سوريا، في رسالة تهديدية مفادها: إما أن تندمج "قسد" وتُحل وحدات الحماية، أو أن تركيا ستتحرك عبر أذرعها العسكرية في الشمال، وعلى رأس هذه الأذرع "الجيش الوطني".
الدور التركي في هذا الاتفاق يتجاوز التهديدات العسكرية. منذ سقوط الأسد، كانت أنقرة أحد أبرز الداعمين للحكومة الانتقالية في دمشق، مقدمة دعماً سياسياً وعسكرياً مباشراً لتوحيد السلطة المركزية، فهي ليست مجرد مراقب خارجي، بل لاعب رئيسي في شمال سوريا، حيث تسيطر على مناطق واسعة عبر عملياتها العسكرية السابقة.
وبرغم أن هذه المناطق أصبحت نظرياً تحت سيطرة دمشق بعد الإعلان عن انضمام فصائل "الجيش الوطني" إلى الجيش السوري الجديد، لكنها بقيت محتفظة بولاء تركي قوي. هذا الضغط التركي يضع دمشق في موقف حرج: إما التنازل عن بعض السيطرة لإرضاء "قسد"، أو التصعيد لإرضاء حليفها التركي.
كذلك، فإن "قسد" تسيطر حالياً على عدد كبير من حقول النفط في الشمال الشرقي، مثل حقلي الرميلان والعمر، التي تمثل أكثر من ثلثي إنتاج سوريا النفطي قبل الحرب. وترى دمشق في عودة الإيرادات النفطية إلى خزينتها مفتاحاً لأزمتها الاقتصادية الخانقة التي يمكن أن تتحول – في حال استمرارها – إلى تهديد جدي للسلطة الجديدة، فيما تعتبرها أنقرة لزاماً لانطلاق عملية إعادة الإعمار التي ستعود بالنفع على شركاتها وتريحها من عبء مالي ثقيل، سواء لناحية دعم دمشق لوجستياً أو عودة اللاجئين السوريين لديها إلى بلادهم.
3 سيناريوات مستقبلية
لا تزال الولايات المتحدة، الحليف الأقرب لـ"قسد"، موجودة على الأرض بأقل من ألف جندي، لكنها تريد الخروج. واشنطن توسطت في الاتفاق، وهي تعرف أن انهياره قد يعيد البلاد إلى مربع الحرب. لكنها في الوقت نفسه لا تملك الرغبة ولا القدرة على فرض حل دائم.
تحاول دمشق استغلال ورقة العشائر الموجودة في مناطق "قسد"، والتي يعبّر بعض زعمائها ممن استُبعدوا عن المناصب على حساب إخوتهم أو أبناء عمومتهم عن شعورها بالتهميش، ويرون في الدمج فرصة لاستعادة نفوذ ضائع. في المقابل، يخشى الأكراد من خسارة ما بنوه خلال عقد كامل. وفي الخلفية، لا تزال خلايا "داعش" النائمة تنفذ عمليات بين الحين والآخر، مستفيدة من أي فراغ أمني.
تقف سوريا اليوم على مفترق طرق حقيقي. فاتفاق 10 آذار ليس مجرد ورقة سياسية، بل هو اختبار وجودي للدولة السورية الجديدة: هل تستطيع دمشق استيعاب قوة بحجم "قسد" من دون أن تفقد صورتها كسلطة مركزية؟ وهل تضطر "قسد" إلى التخلي عن جزء من مكتسباتها تحت الضغوط الإقليمية والداخلية؟
في ظل ما سبق، هناك ثلاثة سيناريوات رئيسية تحكم المشهد في شمال البلاد وشرقها:
يتمثل الأول بنجاح تدريجي بطيء، حيث تندمج "قسد" جزئياً، وتبقى صلاحياتها المحلية ضمن نظام لا مركزي سياسي موسّع.
والثاني بإبقاء الحال على ما هي عليها بحكم الأمر الواقع، مع استمرار الازدواجية السياسية-الأمنية في البلاد، خصوصاً في ظل تطور المواقف في جنوب البلاد وغربها من قبل الدروز والعلويين.
أما الثالث والكارثي فهو سيناريو الفشل الكامل، والعودة للقتال بين دمشق و"قسد"، وتدخل تركيا عبر وكلائها، واستغلال "داعش" للفراغ، وهو أضعف الاحتمالات قياساً للمزاج الإقليمي والرؤية الأميركية للمنطقة.
نبض