هتافات في دمشق تُثير قلق تل أبيب… وإلغاء "قيصر" يواجه ارتداداتها
لم تكن الهتافات التي رُفعت خلال العرض العسكري في دمشق، في الذكرى الأولى لـ"عيد التحرير"، حدثاً محلياً محدود الأثر. فبعد ساعات قليلة من بثّها، كانت المقاطع قد وصلت إلى تل أبيب، ومنها إلى وحدات التقدير العملياتي في الجيش الإسرائيلي. وإذاعة الجيش تحدثت عن "هتافات عدائية" استخدم فيها الجنود كلمة "عدو" للإشارة إلى إسرائيل، قبل أن تؤكد أن نقاشاً داخلياً جرى على مستوى كبار المسؤولين لتقييم دلالات المشهد. ثم جاء التصريح الأكثر صراحة، عندما كتب وزير الشتات الإسرائيلي عميحاي شيكلي: "الحرب حتمية"، في إحالة مباشرة إلى تلك التسجيلات.
لم يأتِ هذا الرصد بمعزلٍ عن مناخ أوسع تُعيد فيه المؤسسة الأمنية الإسرائيلية قراءة كل إشارة آتية من سوريا ضمن إطار واحد: منع تكرار 7 تشرين الأول/ أكتوبر. فقد صرّح رئيس الحكومة ووزراء دفاع متعاقبون في الأسابيع الماضية بأن أي نشاط عسكري قرب الحدود الشمالية يجب أن يُقرأ باعتباره جزءاً من استراتيجية استباقية لمنع "هجوم مباغت جديد". وتكررت الإشارة في الإعلام الأمني ومراكز الأبحاث إلى أن أي تغيّر سريع في بنية الجيش السوري الجديد أو في انتشاره "يستدعي حساسية مضاعفة"، مع توصيف هذا الجيش بأنه "قوة غير مستقرة بعد"، وقد يحمل في تركيبته عناصر يصعب التنبّؤ بسلوكها. هكذا لم يُنظر إلى الهتافات كاحتفال داخلي، بل بوصفها علامة تُضاف إلى لوحة إنذار أوسع.
تلك اللوحة بدأت قبل دمشق. ففي عملية توغّل بيت جن نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر، روّجت إسرائيل لرواية تقول إنها كانت تطارد "بنية إرهابية" تُعدّ لاستهداف الجولان. وبرغم غياب الأدلة المعلنة، بدت المؤسسة الأمنية متحمّسة لتثبيت هذه الرواية، كأنها تسعى إلى بناء سياق تراكمي يربط بين حوادث متباعدة، ويقدّم سوريا الجديدة كاحتمال تهديد صاعد. وقد تتفاوت دوافع هذا الخطاب بين خشية فعلية من تحوّل الجبهة الشمالية، وبين رغبة في تهيئة ذرائع تسمح بطرح صيغ جديدة من "المناطق الأمنية العازلة" داخل الأراضي السورية.
وعلى الأرض، تظهر حلقة ثالثة من هذا المشهد. فمنذ عودة الرئيس أحمد الشرع من واشنطن، توقفت مفاوضات الاتفاق الأمني بين الجانبين، وبدأت تل أبيب إرسال رسائل مباشرة عبر تحركات ميدانية مكثفة. زار نتنياهو وكبار قادة الجيش الجنوب، ثم جاء توغّل بيت جن، وصولاً إلى حادثة خان أرنبة أمس، حين نُصبت حواجز موقتة وأطلقت النار على سوريين محتجّين، ما أدى إلى إصابات. هذا الإيقاع لا يبدو عفوياً، بل يشير إلى محاولة إسرائيلية لإعادة رسم قواعد الاشتباك قبل أن تستقر دمشق على توازنات ثابتة مع واشنطن.

وثمّة طبقة أخرى تتعلق بما يجري في واشنطن نفسها: تباينٌ متسع بين مقاربة إدارة الرئيس دونالد ترامب وتل أبيب للملف السوري. فقد ظهر خلاف لفظي غير مألوف حين هاجم مقرّبون من الحكومة الإسرائيلية المبعوث الأميركي توم براك ووصفوه بأنه "سفير تركيا"، في إشارة إلى اعتراضهم على رؤيته للترتيبات الإقليمية. وفي المقابل، لا تُبدي الإدارة الأميركية اعتراضاً على رفع "قانون قيصر"، وتتعامل معه بوصفه جزءاً من صفقة أوسع لإعادة إدماج سوريا الجديدة في معادلة استقرار إقليمي، وهي مقاربة لا تشاركها إسرائيل التي تتحرك وفق هواجسها الحدودية.
وقد وجد هذا التوتر طريقه سريعاً إلى الكونغرس. إذ كشف رئيس الشؤون السياسية في "المجلس السوري الأميركي" محمد علاء غانم أن أحد أعضاء الكونغرس بعث رسالة إلى زملائه مرفقة بفيديوات الهتافات، مستخدماً صيغة تقول: "في حين نرفع العقوبات عن الجولاني، إليكم ما يفعله..."، في إشارة واضحة إلى معركة إلغاء "قيصر". وبحسب غانم، وصلت الفيديوات نفسها إلى أعضاء آخرين عبر أطراف إسرائيلية، بما في ذلك بعض الذين أبدوا سابقاً تعاطفاً مع مسار الإلغاء.
بالتوازي، كان وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر يعقد اجتماعات متتالية في واشنطن مع رؤساء لجان العلاقات الخارجية في مجلسي النواب والشيوخ، على أن يلتقي نظيره الأميركي ماركو روبيو في اليوم التالي. لم يكن ذلك نشاطاً بروتوكولياً، بل محاولة واضحة لاستثمار اللحظة والضغط قبل التصويت. غير أن المفارقة أن النافذة الزمنية للتأثير قد أُغلقت فعلياً، فالنص النهائي لمشروع موازنة الدفاع، المتضمن بند إلغاء "قيصر"، أصبح مغلقاً وغير قابل للتعديل، كما أكد غانم. ما يعني أن بإمكان إسرائيل التأثير في الأصوات، لكن ليس في صيغة القانون. وحتى مع إعلان بعض النواب نيتهم عدم التصويت، فإن مشاريع الدفاع عادة ما تمرّ بأغلبية واسعة يصعب تعطيلها.
وتتقاطع هذه التطورات — من هتافات دمشق إلى توغّل بيت جن، ومن توتر الجنوب إلى ما يجري في الكونغرس — لتشكّل مشهداً واحداً تتداخل فيه الحسابات الأمنية والسياسية. فلم يعد الحدث السوري محلياً، بل بات ورقة في معركة نفوذ إقليمية ودولية، تُقرأ في تل أبيب كما تُناقش في واشنطن، ضمن هاجس استباقي عنوانه "منع 7 أكتوبر جديد".
وفي خلفية ذلك كله، تبدو سوريا الجديدة وكأنها تُدفَع إلى قلب معادلة أوسع منها: معادلة تبحث فيها إسرائيل عن إطار جديد للتعامل مع واقع متغيّر على حدودها، فيما تتعامل واشنطن مع سوريا بوصفها اختباراً لأولويات مرحلة ما بعد الفوضى.
ويبقى السؤال مفتوحاً: هل تمثّل هذه الأحداث سلسلة وقائع منفصلة، أم ملامح مبكرة لاستراتيجية إسرائيلية أوسع؟ الجواب لم يتضح بعد، لكن المؤكد أن الخيوط التي بدت متباعدة تتجه اليوم نحو نقطة واحدة، حيث يُعاد رسم الحدود السياسية والأمنية قبل أن تُرسَم على الأرض.
نبض