المشرق-العربي
05-12-2025 | 06:06
النفوذ التركي في سوريا والمواجهة مع إسرائيل: قراءة في العلاقات المعقدة بين حكم الشرع وجارتيه المتطلبتين
لا يزال الوجود العسكري التركي مستمراً في المنطقة، كما لا تزال تركيا تمتلك نفوذاً على "سوريا الجديدة" أكثر من أي قوة إقليمية أخرى.
صراع تركي /إسرائيلي على سوريا الجديدة
مدى سنوات الحرب السورية الطوال، تعاظم الدور التركي ، من التدخلات العسكرية المحدودة إلى التأثير المباشر في الملف السوري، من خلال النفوذ الشامل على الشمال السوري بأبعاد أمنية، سياسية، ديموغرافية، واقتصادية، ليتحوّل إلى تأثير مباشر في القرار السياسي والأمني، مع وصول "هيئة تحرير الشام" إلى دمشق وإطاحة بشار الأسد في كانون الأول/ ديسمبر الماضي.
وبعد أن كان النفوذ التركي يعتمد في الماضي إلى حد كبير على ميليشيا "الجيش الوطني السوري" ودوره المزدوج بين فرض السيطرة الإدارية على مناطق الشمال وإدارة شبكة اقتصادية غير رسمية، باتت أنقرة اليوم كفيلة دمشق لدى واشنطن ومهندسة علاقاتها مع موسكو وحاميتها ضد تل أبيب، في مشهد معقّد تتداخل فيه المصالح الاقتصادية بالمخاوف الأمنية.
الاستراتيجية التركية في سوريا: القوة والاقتصاد
سبق للرئيس الأميركي دونالد ترامب أن وصف مقاتلي "هيئة تحرير الشام" الذين أسقطوا نظام بشار الأسد العام الماضي، بأنهم "وكلاء تركيا"، ليذهب خلال اجتماعه بنظيره التركي في البيت الأبيض في 25أيلول/ سبتمبر الماضي إلى أبعد من ذلك، ناسباً الفضل في وصول الشرع إلى دمشق إلى ضيفه قبل أن يلتفت إلى أعضاء حكومته قائلاً: "لقد استولى على سوريا".
في الشكل، تغّيرت المعادلة التركية في الشمال مع سقوط الأسد. المدارس والمستشفيات التي كانت تُديرها تركيا في المنطقة سُلِّمت إلى دمشق، وفصائل "الجيش الوطني السوري" باتت تتبع نظرياً وزارة الدفاع في الحكومة المركزية.
لكن، رغم ذلك، لا يزال الوجود العسكري التركي مستمراً في المنطقة، كما لا تزال تركيا تمتلك نفوذاً على "سوريا الجديدة" أكثر من أي قوة إقليمية أخرى. فجهاز استخباراتها يملك حلفاء كثراً داخل أجهزة الأمن السورية، كما أن الجيش التركي بدأ بتدريب ضباط وجنود سوريين، وبدأ الغاز الطبيعي من أذربيجان بالتدفق عبر أراضيها إلى سوريا.
تتركز الاستراتيجية التركية في سوريا على نموذج مركّب يجمع بين القوة الصلبة والناعمة والاقتصادية، ممتدة من النفوذ العسكري إلى إعادة تشكيل البنى الإدارية والاقتصادية والسياسية في البلاد، اعتماداً على منظومة النفوذ المتعددة المستويات التي بنتها أنقرة طوال سنوات الحرب، متجاوزة السيطرة الأمنية إلى إعادة هندسة الإيديولوجيا السورية والديموغرافية في المناطق الشمالية استعداداً لاستخدام الجغرافيا السورية ورقة قوة إقليمية في السنوات القادمة.
ولإنجاح استراتيجيّتها، تراهن أنقرة على حتمية نجاح الرئيس السوري أحمد الشرع في تجاوز المعضلات الخاصة بمحدودية القدرة على إدارة البلاد بكاملها، مع تحقيق نموذج حكم مستقر بمنظومة اقتصادية فاعلة، وتفادي أي فشل للمؤسسات المحلية أو الأمنية، سواء على المستوى الداخلي نتيجة للصدام الديموغرافي أو العقائدي، أم الخارجية الناتجة من تضارب مصالح الفاعلين الإقليميين.
في الوقت ذاته، تبذل أنقرة جهوداً حثيثة لعدم إظهار الحكومة السورية الجديدة واجهة شكلية تخضع لرقابة تركية مباشرة، مدركة خطورة هذه الصورة على استمرارية السلطة وبناء علاقات مستقرة مع الدول الإقليمية، التي ينتظر أن تلعب الدور الرئيسي في إعادة إعمار سوريا، ولا سيما الخليجية منها.
وبناء على ذلك، رغم حقيقة كون الإرشاد التركي والدعم الديبلوماسي العاملين الجوهريين في اكتساب الشرع شرعيته الدولية، تبقى هذه الحقيقة بعيدة عن الإعلان من أي من الطرفين خشية تبرير إسرائيل توسّعها العسكري في الجنوب تحت عنوان "الانتداب التركي على سوريا".
الاقتصاد وسلاح الفرات في معادلة النفوذ
في الشق الاقتصادي، تبدو التجارة بين البلدين مزدهرة؛ وقد بلغت قيمة الصادرات التركية إلى سوريا 2.1 مليار دولار خلال الأشهر الثمانية الأول من العام.
وتدمج الرؤية الاقتصادية التركية الخاصة بسوريا الطاقة والتجارة والممرات الجيوسياسية والمساحة الاستثمارية في سلة واحدة مترابطة، مدركة أن العلاقة الاقتصادية مع سوريا الجديدة ليست مجرد تبادل تجاري، وإنما أداة نفوذ أمني وسياسي وجيو–طاقي تتحكم عبرها أنقرة بسلاسل الإمداد داخل سوريا، ومنابع الطاقة وشبكات نقلها (الكهرباء والغاز والنفط)، مع محاولة الاحتفاظ بنفوذها على المعابر البرية والبحرية، إلى جانب ربط الليرة السورية بالعملة التركية، ناهيك بالهيمنة على عملية إعادة الإعمار من خلال الشركات الإنشائية التركية أو المصنّعة لمواد الإعمار، بالإضافة إلى ربط المصانع السورية، والموجودة في الشمال خصوصاً، بسلاسل الإنتاج التركية، شأنها شأن المحاصيل الزراعية.
وشهدت سوريا بفضل المبادرات التركية، عودة كبيرة للتيار الكهربائي، في خطوة تؤثر بشكل كبير على مراكمة الشرع لشعبيّته. فتحسّن الخدمات الأساسية يعتبر مولّداً للشرعية، والمدخل لاعتياد السوريين على فكرة أن يحكم دمشق جهادي سابق.
بالإضافة إلى ذلك، تنظر أنقرة إلى عملية إعادة الإعمار في سوريا باعتبارها فرصة اقتصادية كبيرة لشركاتها التي تعاني الركود نتيجة تراجع الاقتصاد في البلاد، إلى جانب كونها عاملاً رئيسياً في تحسين الظروف داخل سوريا، ما قد يشجع على عودة اللاجئين السوريين المقيمين حالياً في تركيا، ويساهم في تخفيف العبء السياسي الكبير عن حزب "العدالة والتنمية" الحاكم ويعزز موقعه داخلياً أمام القوى المعارضة.
وفي ظل الانهيار الاقتصادي الذي تعيشه سوريا يمكن اعتبار نهر الفرات أكثر من مولد للطاقة ومورد طبيعي للسكان والزراعة. الفرات يشكل اليوم أداة ضغط استراتيجية يمكن لتركيا استخدامها في سوريا.
وأدّى خفض تركيا لمستويات تدفق النهر نتيجة مشاريع السدود إلى أضرار جسيمة على الإنتاج الزراعي وتوليد الطاقة الكهربائية، ما دفع خبراء إلى التحذير من إمكان نشوء "أزمة مياه" في سوريا. قبل مشروع GAP التركي، كان متوسط تدفق نهر الفرات حوالى 850 متراً مكعباً/ثانية، لكنه انخفض ليصل إلى 510 أمتار مكعبة/ثانية عام 2025. هذا التراجع انعكس مباشرة على الإنتاج الزراعي السوري، الذي انخفض من 2.1 مليار دولار في 2010 إلى 400 مليون دولار في 2025.
ومع اكتمال سد "إليسو" التركي المتوقع عام 2026، تشير التقديرات إلى خفض إضافي في جريان الفرات بنحو 30%. ويخشى الخبراء أن يؤدي انخفاض تدفق النهر إلى 380 متراً مكعباً/ثانية بحلول 2030 إلى تهجير حوالى 1.2 مليون مزارع.
واستغلت الشركات الزراعية التركية الوضع لتوسيع عملياتها، مستأجرة نحو 180 ألف هكتار من الأراضي الزراعية السورية، مع فرض زراعة القمح المعدل وراثياً. هذه السياسات تعكس ما يصفه محللون بـ"الاحتكار الوجودي" لمياه الفرات، حيث تتقاطع الأزمة المناخية مع الصراع السياسي لتجعل المياه أداة ضغط استراتيجية بامتياز.
ويتوقع ارتفاع مؤشر الإجهاد المائي في سوريا إلى مستوى "حرج" عند 8.7 عام 2030، لتتحول المياه إلى سلاح جيوسياسي بامتياز، يلقي بظلاله على الأمن الغذائي والاستقرار السياسي في البلاد.
كل ما سبق يجعل من علاقة الشرع بأنقرة حتمية مع صعوبة الحفاظ على الخط الفاصل بين الشراكة والتبعية في ظل سياسية تركية تربط الاقتصاد بالأمن.
دمشق وسط صراع النفوذ التركي-الإسرائيلي
أعتمد الشرع في الماضي على تركيا عندما كان محاصراً في إدلب، لكنه اليوم يسيطر على الموانئ وطرق التجارة، ويتلقّى عروضاً للمساعدة والاستثمار من دول عربية، كما أنّه يحظى بدعم أميركي، ويأمل في أن تتحوّل أميركا، وليس تركيا، إلى الراعي الأساسي لسلطته.
ورغم وجود العديد من الأطراف الإقليمية والدولية المرتابة من تعاظم النفوذ التركي في سوريا، يأتي معظم الحملات المضادة من إسرائيل. ففي وقت سابق من العام، استهدفت إسرائيل قواعد عسكرية كانت الحكومة السورية تخطط لتسليمها إلى الأتراك، ما أجبر أنقرة على إعادة معايرة مساعداتها لدمشق ووجودها العسكري في سوريا لتجنب التصعيد مع تل أبيب.
وتوصلت إسرائيل وتركيا إلى نوع من التوازن الحذر بضغط أميركي، إذ يأمل كل طرف في أن يتجنب الآخر تجاوز خطوطه الحمر. فوجود قاعدة تركية في دمشق يُعد تجاوزاً للخطوط الإسرائيلية، وفي المقابل، فإن تدخل إسرائيل دعماً للمسلحين الأكراد في سوريا سيكون تجاوزاً للخط الأحمر التركي.
تسعى تركيا وإسرائيل لتحقيق أهداف مختلفة في تعاملهما مع الوضع الحالي في سوريا. تركز تركيا على دعم الإدارة السورية الجديدة وتقوية جيشها لكي يتمكن من فرض سيادته على الأراضي السورية.كاملة في المقابل، تسعى إسرائيل إلى إنشاء مناطق عازلة واسعة على طول حدودها الشمالية مع سوريا ولبنان، وضمان حرية غير محدودة لطائراتها في أجواء المنطقة. كما تهدف إلى إقامة علاقات ديبلوماسية مع دمشق وإضفاء الشرعية على الوقائع التي فرضتها على الأرض بالقوة، من خلال اتفاق يعترف بحدود معاد رسمها، ويقر بالمناطق العازلة، ويعترف بالعلاقة الخاصة لإسرائيل مع المجتمع الدرزي في سوريا، ويمنع دمشق من احتضان الفصائل الفلسطينية، ويقلل النفوذ التركي في سوريا، ويضع قيوداً على العلاقات الخارجية السورية، ويعيق أي تنسيق إقليمي يتعارض مع مصالحها.
وتوظف كل من تركيا وإسرائيل أوراقها الاستراتيجية ضد الأخرى ضمن الساحة السورية، مستخدمة آليات مختلفة في صراعها التنافسي المتنامي.
تمتلك أنقرة عوامل قوّة حصرية في سوريا، تمنحها أوراق ضغط غير متاحة لتل أبيب، وتستغلها الحكومة التركية لموازنة محاولات إسرائيل توسيع نفوذها في سوريا. فعلاقتها القوية بالقيادة السورية الحالية على المستويين المدني والعسكري، وانتشار قواعدها العسكرية في الشمال السوري، وعلاقة الرئيس أردوغان القوية بنظيره الأميركي، تعتبر أدوات فعالّة لموازنة الضغوط الإسرائيلية.
في المقابل، تمتلك تل أبيب أيضاً أوراق قوة تستخدمها لتعزيز مصالحها، وتقويض النفوذ التركي، وإجبار أنقرة على التراجع شمال ريف حماه الجنوبي.
دمرت إسرائيل القدرات العسكرية السورية بالتزامن مع الساعات الأولى لسقوط الأسد. وتستمر الغارات الإسرائيلية على الأراضي السورية مع الحفاظ على حرية الحركة الجوية، في الوقت الذي توسع فيه القوات الإسرائيلية مناطق نفوذها قرب دمشق.
وتستخدم تل أبيب ملف الأقليات للضغط على دمشق، إلى جانب استغلالها علاقاتها الدولية، مستعينة بحلفها مع واشنطن.
وهكذا، تبدو سوريا اليوم ساحة للتنافس بين تركيا وإسرائيل، ومن المتوقع أن تشهد الفترة المقبلة تصاعد الصراع على النفوذ، مع التركيز على جنوب سوريا ساحة رئيسية، ما يزيد من عدم الاستقرار الإقليمي، ويجعل الأحداث المحلية هناك محور اهتمام إقليمي ودولي.
التحدي الأكبر لتركيا في سوريا يكمن في شمال شرق البلاد، الخاضع لسيطرة المسلحين الأكراد الذين يهيمنون على "قوات سوريا الديموقراطية" ("قسد") المدعومة أميركياً. ورغم التوافق على تسليم المعابر الحدودية والمطارات وحقول النفط إلى دمشق والانضمام إلى الجيش السوري الجديد، إلا ان ذلك لم يتحقق حتى الآن.
السيناريوهات المستقبلية للعلاقات السورية–التركية
تستند السياسة التركية في سوريا إلى منع قيام كيان كردي مترابط على حدودها الجنوبية. لوّحت تركيا والشرع بإمكان شن عملية عسكرية ضد القوات الكردية إذا لم تلتزم وعودها بنهاية العام. لكن الجيش السوري غير قادر على خوض حرب ضد الأكراد بمفرده، كما اتضح خلال حوادث اللاذقية والسويداء، حيث فقدت الحكومة سيطرتها على مقاتليها، واتّهم العشرات وربما المئات منهم بارتكاب مجازر طائفية.
تركيا قادرة على هزيمة "قوات سوريا الديموقراطية"، لكنها تخشى العواقب المحتملة، بما في ذلك انهيار محادثات السلام مع حزب العمال الكردستاني. أي هجوم تركي جديد في سوريا قد يعيد الأمور إلى نقطة الصفر، ويفتح الباب أمام حرب جديدة. كما أنه قد يفسد التحسن الأخير في العلاقات مع الولايات المتحدة. فالساحة السورية تبقى حقل ألغام، وتركيا مضطرة للمضي بحذر.
من المتوقع أن يستمر النفوذ التركي في سوريا، وفي حال توتر العلاقة بين أنقرة وتل أبيب، قد ينزلق الصراع إلى مواجهة عسكرية غير مباشرة تكون فيها "قسد" ورقة رئيسية.
في المقابل، فإن التطبيع المحتمل بين دمشق وإسرائيل سيؤدي إلى تراجع العلاقة التركية–السورية نسبياً، مع تعزيز دور إسرائيل في الجنوب السوري وفرض ترتيبات جديدة للأمن الإقليمي.
ويبقى الملف الكردي العامل الأهم في العلاقة بين تركيا وسوريا، حيث تشكل مناطق "قسد" هدفاً استراتيجياً لأنقرة، بينما تعتبر دمشق استمرار الإدارة الذاتية تهديداً لها.
العلامات الدالة
الأكثر قراءة
العالم العربي
12/3/2025 12:22:00 PM
لا بد من تفكيك شبكات التمكين الإسلامية داخل الجيش السوداني، وعزل قادته الموالين للإخوان... فهذا شرط أساسي لأي دعم دولي لعملية السلام.
المشرق-العربي
12/3/2025 12:18:00 PM
ياكواف كاتس، وهو أحد مؤسسي منتدى السياسة MEAD، والباحث البارز في JPPI، ورئيس تحرير السابق لصحيفة "جيروزاليم بوست" العبرية، يجيب عن هذه الأسئلة في مقال له، ويشير إلى الفوارق بين الماضي والحاضر.
المشرق-العربي
12/3/2025 2:17:00 AM
يطالب القرار إسرائيل بالانسحاب الكامل من الجولان
سياسة
12/4/2025 10:43:00 AM
أمرت الحكومة العراقية بتجميد جميع أموالهم وأصولهم...
نبض