غزة تحت الركام... "النهار" ترصد معاناة الدفاع المدني لانتشال آلاف الجثامين

تعد قضية آلاف المفقودين الفلسطينيين قسراً من أكثر القضايا إيلاماً وأهميةً في غزة. فمدنيون كثر فقد كل أثر لهم منذ اندلاع حرب الإبادة الجماعية، وبلمح البصر أصبح مصيرهم مجهولاً. بعضهم قتل ودفن تحت الأنقاض بفعل القصف العنيف والمكثف الذي شهدته غزة على مدار عامين.
باستخدام أكثر من 150 ألف طنّ من القنابل والمتفجرات ومختلف أنواع الأسلحة والوسائل التكنولوجية المتطورة التي جرى اختبارها خلال الحرب، أي ما يعادل ثمانية أضعاف قنبلتي ناغازاكي وهيروشيما معاً، قتل نحو 70 ألف فلسطيني عرفت هوياتهم، فيما فقد أثر آخرين يعتقد أن بعضهم اعتقل أو دفن في مقابر جماعية. وقد يشكل وقف إطلاق النار بارقة أمل لمعرفة مصير هؤلاء بعد انقطاع الاتصال بهم من دون أي دليل على وفاتهم أو أسرهم.
إلى جانب ذلك، تحمل وقائع الاختفاء القسري للفلسطينيين خلال حرب الإبادة الجماعية مؤشرات إلى التطهير العرقي، من خلال تفاصيل موجعة ومروعة تروى أحياناً من قبل شهود عيان في المكان، وتعتبر دليلاً على اللحظات الأخيرة التي شوهد فيها هؤلاء الأشخاص أو العائلات. فقد اقتيد عدد منهم من قبل جنود الجيش الإسرائيلي إلى الآليات العسكرية، ثم إلى جهة مجهولة، ومنذ ذلك الحين لم ترد أي معلومات مؤكدة عنهم.
ودفعت هذه الوقائع عائلات المفقودين والجهات المختصة إلى مناشدة المنظمات الحقوقية والإنسانية، المحلية منها والدولية، بالتحرك العاجل للكشف عن مصير أبنائهم وضمان سلامتهم في حال ما زالوا أحياء، ومحاسبة الجهة المسؤولة عن اختفائهم القسري.
المفقودون بالأرقام
وفقاً للجنة الدولية للصليب الأحمر، "تلقت أكثر من 11 ألف بلاغ عن حالات اختفاء منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، وتمكنت من إغلاق 4 آلاف ملف منها، بينما لا يزال 7 آلاف ملف في عداد المفقودين".
أما "المركز الفلسطيني للمفقودين والمخفيين قسراً"، فيقدر أعداد المفقودين بما يتجاوز 5 آلاف شخص، تم توثيق نحو 1300 حالة منهم. لكن الصعوبات الميدانية الكبيرة التي تواجه التوثيق - أبرزها الدمار الشامل، وصعوبة الوصول إلى الأسر، وانقطاع الاتصالات - جعلت العملية شديدة التعقيد. كذلك، يعتقد بعض الأهالي أن أبناءهم معتقلون وليسوا مفقودين، ما يعني أن إغلاق هذه الملفات قد يحتاج إلى سنوات، وربما تبقى بعض الحالات بلا إجابات إلى الأبد.
ويؤكد المركز أن العدد الأكبر من المفقودين لا يزالون تحت أنقاض المباني المدمرة التي يصعب الوصول إليها أو استخراج الجثامين منها بسبب انعدام المعدات المناسبة. كما أن استخدام الجيش الإسرائيلي قوة تدميرية هائلة أدى إلى تبخر أجساد بعض الضحايا، ويرجح أن بعض المفقودين دفنوا من دون التعرف إلى هوياتهم، سواء على يد مواطنين أثناء النزوح أو بواسطة الجيش الإسرائيلي الذي يُعتقد أنه أقام مقابر جماعية في مناطق عدة.
التحديات والصعوبات الميدانية
وعن أبرز التحديات التي تواجه عمليات البحث، يقول مدير الدفاع المدني في مدينة غزة رائد الدهشان لـ"النهار": "نحن نمتلك معدات وتقنيات وأساليب محدودة، لذلك نقوم بالبحث يدوياً عن رفات الشهداء تحت الأنقاض. وفي حال ورود معلومات عن وجود رفات لأي مواطن في منطقة تحتوي على كميات كبيرة من الأنقاض وطبقات متعددة من الخرسانة، تُصبح عملية الاستخراج صعبة للغاية، فنؤجلها حتى تتوفر المعدات الثقيلة والأكثر تطوراً. نعطي الأولوية للحالات الجديدة ونعمل وفقاً للموارد المتاحة لدينا".
ويشير الدهشان إلى أن "الحرب التي استمرت عامين استنزفت كل ما نملك من معدات. مركباتنا متهالكة وأدواتنا بدائية، وكلما قلت الأدوات طالت مدة انتشال الرفات. طلبنا من المنظمات الدولية إدخال معدات ثقيلة لتسهيل هذه المهمة، ونعمل على جمع البيانات وحصر أعداد الرفات الذي لا يزال تحت الأنقاض، وهي كبيرة جداً وتحتاج إلى إمكانيات متطورة لانتشالها".
ويوضح المسؤول في الدفاع المدني الفلسطيني أن "البحث عن الرفات أشبه بالبحث عن إبرة في كومة قش. وما يرهق فرقنا بشدّة هو أننا نستخدم أدوات بسيطة لأننا لا نملك أجهزة استشعار أو كشف". ويضيف: "هناك ما يقارب 10 آلاف شخص تحت الأنقاض، والكثير من المنازل المدمرة بالكامل. الوصول إلى المواقع صعب بسبب تضرر الطرق، والمباني سقطت فوق السكان، ومناطق شاسعة تحولت إلى أكوام من الركام غيرت معالمها تماماً، حتى أصحاب المنازل أنفسهم غالباً ما يعجزون عن تحديد مواقع بيوتهم بدقة. كل هذه العوامل تعقد عمليات البحث على فرق الدفاع المدني إلى حد كبير".
ويختم قائلاً: "هذه العمليات شاقة ومفجعة، بالغة الصعوبة والتعقيد. نعمل في ظروف قاسية جداً، وفرقنا خرجت من الحرب منهكة نفسياً وجسدياً ومالياً. في كثير من الحالات نجد الجثامين متحللة ومختلطة بالخرسانة، وقد نعثر على أجزاء من جثة في مكان وأجزاء أخرى في مكان مختلف، فنقوم بجمعها ثم نستدعي أفراد العائلة للتعرف إليها. تنقل بعض الحالات إلى المستشفيات حيث تسجل العلامات والعينات وتحفظ لمدة خمسة أيام، وإذا لم يتم التعرف إليها، تُدفن وتُعلّم ليتم التعرّف عليها لاحقاً في حال تقدم أحد أقاربها بطلب".
من جهته، يقول مدير الفرق الميدانية في قطاع غزة إبراهيم أبو الريش، لـ"النهار"، إن "الدفاع المدني يعاني نقصاً حاداً في المعدات الثقيلة وأدوات الإنقاذ منذ بدء الإبادة الجماعية، إذ لم يسمح بإدخال أي من المعدات الخاصة بنا عبر المعابر".
ويتابع: "يخاطر رجال الإنقاذ بحياتهم أثناء عمليات الانتشال بسبب نقص معدات الوقاية الشخصية كالبدلات والقفازات والأقنعة، لأن المتوفر لدينا غير كاف. أحياناً نجد شهداء في الشوارع، خاصة في المناطق التي ينسحب منها الجيش، وغالباً ما يكونون مجهولي الهوية. نوثق ملابسهم ومتعلقاتهم الشخصية بطريقة رسمية وقانونية، وإذا لم يعثر على ما يثبت هويتهم نصنفهم على أنهم مجهولون. في بعض الحالات تأتي العائلات بحثاً عن أحبائها، فنريهم صوراً، فيتعرف بعضهم إليهم، فيما يعجز آخرون عن ذلك".
ويضيف أبو الريش: "العديد من الجثامين متحلل، ما يصعب التعرف إليها. تمكنا حتى الآن من تحديد هوية نحو 350 جثة".
أما الدكتور محمد أبو سلمية، مدير مستشفى الشفاء، فيقول لـ"النهار": "نواجه صعوبة بالغة في التعرف على الجثامين. يضم فريقنا متخصصين من الطب الشرعي ووزارتي الصحة والعدل، وشكلنا لجنة لفحص كل جثة وترقيمها. في حال التعرف على هوية صاحبها تسلم لعائلتها لدفنها".
ويوضح: "نطلب من العائلات البحث عن أي علامات جسدية - شامات أو ندوب أو علامات مميزة أخرى - فهي الوسيلة الوحيدة المتاحة حالياً لغياب فحص الحمض النووي. نحتفظ بالجثث لمدة أسبوع، وإذا لم يتم التعرف إليها تدفن في قبور مُرقمة ليتم التعرف إليها لاحقاً عندما تتوافر الإمكانات".
ويختم أبو سلمية: "لا نعرف شيئاً عن الجثامين التي استلمناها من الجانب الإسرائيلي، لا أسماء ولا معلومات. عرضنا صورهم على الشاشات وفي وسائل الإعلام، وتم التعرف على ستة فقط من أصل 120 جثة".