تحقيق ميداني من غزة: فوضى عارمة وعنف بعد وقف إطلاق النار

ربما انتهت الحرب، لكن "حماس" تخوض معركة دموية ضد منافسيها في القطاع فيما تظهر ملامح فوضى عارمة وغياب للقانون بعد انسحاب الجيش الاسرائيلي، بحسب ما نقلت صحيفة "التايمز" البريطانية في تحقيق ميداني من غزة، تنقل فيه شهادات السكان.
قبل وقت قصير من مقتله برصاص إحدى عصابات غزة، كان الناشط صالح الجعفراوي قد تعرّف على قوات الأمن الداخلي التابعة لـ"حماس" التي كانت أذرعها تمتد في جميع أنحاء القطاع. كان هؤلاء يضعون قبعات بيسبول سوداء مطرزة بالذهب، ويحملون بنادق هجومية، وهم متمركزون من مدينة غزة شمالاً إلى خان يونس جنوباً، وكانت الدوريات بمثابة إشارة إلى استعداد "حماس" لسحق أي تهديد وجودي وداخلي.
بعد ثلاثة أيام من نشر صور لقوات الأمن، قُتل الجعفراوي على يد ميليشيا مسلحة بينما كانت "حماس" تنتقم من العصابات التي تجرأت على تحديها. بعد أيام قليلة من ذلك، نُفذت أول عمليات إعدام علنية لرجال زعمت "حماس" أنهم كانوا يخططون للإطاحة بالحركة المسلحة التي حكمت منذ عام 2007.
ربما انتهت الحرب، لكن "حماس" تخوض معركة من أجل البقاء بعد السلام. بالنسبة للفلسطينيين، الذين لم يكن لدى الكثيرين منهم أدنى شك في وحشية حكمها، فقد جلبت أحداث الأيام السبعة الماضية تهديداً جديداً، ما أثار شبح حرب أهلية. فالعنف الداخلي والفوضى وانعدام القانون تسود الآن في المناطق التي انسحبت منها القوات الإسرائيلية.
بالنسبة لأنور القهوجي، وهو أب لخمسة أطفال يبلغ من العمر 50 عاماً من خان يونس، هناك نوع جديد من الوحشية. يقول لـ"التايمز": "لم أشعر بالأمان، لا من القصف، ولا من اللصوص، ولا من المسلحين. لقد تغير الناس، فالقوي يأكل الضعيف".
أثارت صور مقاتلي "حماس" وهم يطلقون النار على خصومهم الفلسطينيين الراكعين وسط شارع مزدحم بعد أيام من سريان وقف إطلاق النار، صدمة لدى الكثيرين. كان بعض من أُعدموا أفراداً من عشيرة عائلة دغمش التي طالما نافست المسلحين الإسلاميين، وهي الآن في صعود.
بينما كان سكان غزة يترددون في مناقشة "حماس"، يبدو أن ذلك قد تغير. قال القهوجي: "أنا شخص مسالم، لكن إنسانيتي لا تسمح لي بقبول الإعدامات". وأضاف: "سواء كان القتلى متعاونين أم لا، لا أستطيع قبول رؤية مثل هذه المشاهد. يجب أن تكون هناك محكمة مختصة، محكمة رسمية. وإلا، يمكن لأي شخص أن يتهم أي شخص، ويصفه بالجاسوس أو اللص، ثم يقتله. نحن بحاجة إلى العدالة، لا إلى الانتقام".
وقال أمجد السقا من خان يونس: "حتى الآن، بعد وقف إطلاق النار، لا أشعر بالأمان على الإطلاق. لا يزال هناك إطلاق نار وأشخاص يتصرفون خارج نطاق القانون. لا يمكن العيش بسلام هكذا. أتمنى فقط ألا يتحول الأمر إلى حرب أهلية".
في المقابل، يقول البعض في غزة إن "حماس" فعلت الصواب، وهي تحاول استعادة النظام. وقال يوسف الأسطل،21 عاماً: "أؤيد ما تفعله حماس. إنهم لا يعتقلون أشخاصًا عشوائياً. من أعدموهم كانوا فاسدين، ربما متعاونين أو لصوصاً. على الأقل حماس تحاول استعادة السيطرة ووقف الفوضى".
وقال عطا كلاب، 33 عاماً: "بدأنا نشعر بالأمان مجدداً بعد وقف إطلاق النار. قبل ذلك، لم يكن هناك قانون، ولا أمان، ولا شيء. أعتقد أن الأمان سيستمر فقط لأن حماس تعدم من خانوا البلاد. إنهم يفعلون ذلك لتجنب حرب أهلية".
يقول الخبراء إن فراغ السلطة ترك القطاع في منطقة غامضة - عالقاً في المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار مع الفشل في إعادة الرهائن الإسرائيليين القتلى، ومن غير المؤكد كيفية المضي قدماً في قضايا رئيسية مثل نزع سلاح "حماس". وقال مايكل ميلشتاين، الخبير في شؤون الميليشيات الفلسطينية، إن "حماس" لن توافق أبدا على نزع سلاحها، ما قد يدفع إسرائيل إلى استئناف الحرب.
وأضاف: "إذا كان المطلب هو الإعلان الفعلي عن التخلي عن السلاح، فهذا جزء أساسي من هوية حماس الأساسية، وأعتقد أنه سيقودنا على الأرجح إلى تجدد الحرب". وتابع: "لكن هناك محاولات عديدة حاليا، معظمها من وسطاء عرب، بما في ذلك مصر وقطر، لإيجاد نوع من التسوية".
وأضاف ميلشتاين، وهو ضابط استخبارات إسرائيلي كبير سابق: "في ما يتعلق بنقاط معقدة أخرى، مثل فكرة مجلس السلام أو نشر قوات دولية في غزة، فإن حماس واضحة تماما. يرفضون ذلك. وأعتقد أننا لن نرى على الأرجح ألوية وكتائب أوروبية أو أميركية تنتشر وتتحرك ضد حماس".
في حين قبلت "حماس" فكرة وجود مشرفين ونظام محلي بقيادة فلسطينية، حذّر ميلشتاين من أن مثل هذا السيناريو قد يؤدي إلى تحرك "حماس" خلف كواليس حكومة فلسطينية رسمية - مع الاحتفاظ بالأسلحة والبنى التحتية المدنية الأخرى كما هو حال "حزب الله" في لبنان. في الوقت الحالي، أظهرت "حماس" - على الرغم من وعد إسرائيل بالقضاء على الحركة - أنها لا تزال قائمة فحسب، بل تحكم كلاعب بارز في غزة.
وقل ميلشتاين إن إعدام العشائر "كان بمثابة إشارة لكل شخص في غزة، أولاً وقبل كل شيء، ليعلم أنه حتى بعد عامين صعبين، ورغم الخسائر التي تكبدتها حماس، فإنها لا تزال اللاعب المهيمن في غزة. الإعدامات تردع الجماعات الأخرى والفلسطينيين الآخرين عن أي أفكار أو حتى التفكير في التعاون مع إسرائيل".
وقال يوسف الأسطل (21 عاما)، من خان يونس.: "لا يوجد أمان على الإطلاق الآن. الشباب يحملون السلاح، ويطلقون النار في الشوارع، والجميع يقول: أنا من هذه العائلة أو تلك. تحولت غزة إلى ميليشيات ومافيات. في الليل، تخشى الخروج ولا تشعر بالأمان على نفسك أو أطفالك. لا توجد سلطة تحكم غزة الآن".
تُرك مستقبل حكم غزة مفتوحاً في أعقاب الهدنة، ومن غير المرجح أن يتدخل المانحون والمستثمرون المحتملون في إعادة إعمارها وتأهيلها في ظل استمرار سيطرة "حماس". وهذا يُفاقم معاناة ما يقرب من مليوني شخص عانوا خلال الحرب.