الاختلاف السوري في الإجماع الوطني

مقالات 08-10-2025 | 12:17

الاختلاف السوري في الإجماع الوطني

سوريا التي نريدها تبدأ حين نقرر أن نحمي ما تبقّى من أمان، وأن نحوّل تنوعنا إلى مصدر قوة مشتركة، لا إلى سبب للخراب.
الاختلاف السوري في الإجماع الوطني
دخان الاشتباكات الأخيرة في حلب بين القوات الحكومية وقوات سوريا الديموقراطية (أ ف ب)
Smaller Bigger

روج موسى*

خلال الأسبوعين الماضيين، عادت الذاكرة المريرة لتطرق أبوابنا في سوريا: صور القتلى، أرقام الجرحى، وخرائط من التهجير تعيد تشكيل يوميات الناس. نحن الذين لم ننسَ حتى أدق تفاصيل الحرب الضروس، نجد أنفسنا مجدداً أمام سيناريو واحد يأكل منا ما تبقّى من صبر ورغبة في الحياة. كل خيار عسكري يُطرح كحلّ سريع سرعان ما يتحول إلى شلال جديد من الدماء، ويقودنا إلى النتيجة نفسها: لا سلام يُبنى من فوهة بندق-  ولا فائدة تُجنى سوى مزيدٍ من الخراب.

أوهام الحسم العسكري واستنزاف الداخل
لا نحتاج إلى سرد طويل لنتذكر هجمات دير حافر وسد تشرين في ريف حلب الشرقي، أو الاشتباكات الأخيرة في مدينة حلب، كأمثلة على بؤس متكرر. دماء جديدة تسيل، أسر تنزوي في زوايا البلاد، ووعود تليها خسائر لا تُحصى. مع كل ذلك، لايزال البعض يراهن على الحسم العسكري طريقاً لاستعادة السيطرة، كأن دروس العقد الماضي لم تكن كافية لتبيان أن العنف الداخلي لم يَنتج سوى مزيد من الانقسام.

الرهان على القضم العسكري لـ"قوات سوريا الديموقراطية" (قسد) أو على أي عملية كبرى في الشمال الشرقي أو في حلب والسويداء، هو رهان على الاستنزاف. فالمعادلة الميدانية تميل دائماً لمصلحة المدافعين، وهم مقاتلون يعرفون الأرض جيداً واكتسبوا خبرة تراكمت عبر سنوات من مواجهة تنظيمات متطرفة، إضافة إلى شبكة تحالفات دولية لا يمكن تجاهلها. أما المهاجمون، وعلى رغم تنوع تشكيلاتهم، فهم غالباً مستنزفون سياسياً وعسكرياً، ومنقسِمون إلى فصائل لم تنجح في بناء أركان جيش متكامل.

غير أن البديل ليس القبول بالأمر الواقع، بل السعي إلى عقلانية سياسية جديدة تفرض على الجميع قراءة الواقع بصدق. فبدلاً من استنزاف "قسد" والقوات الحكومية، ينبغي دفع الجهود نحو إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية السورية بحيث تكون قادرة على استيعاب "قسد" ضمن جيش وطني موحّد، يستفيد من خبراتها الميدانية وتنظيمها الداخلي وعلاقاتها الدولية.

هذا الدمج لا يعني تنازلاً لأحد، بل استثماراً في استقرار طويل الأمد: جيش وطني جامع أقوى من أي تشكيل ميليشيوي متنازع الولاء، وربما يكون إعلان وقف النار الأخير بين الطرفين عبر تصريح وزير الدفاع السوري خطوة يمكن البناء عليها في هذا الاتجاه.

 

صورة من اشتباكات سابقة بين قسد والجيش السوري (المرصد السوري لحقوق الإنسان)
صورة من اشتباكات سابقة بين قسد والجيش السوري (المرصد السوري لحقوق الإنسان)

 

اتفاقات آذار ونيسان كمسارات للحل الوطني
كانت اتفاقية العاشر من آذار واحدة من المحاولات الجادة لتأسيس هذا المسار، حين وُقعت بين الرئيس أحمد الشرع والجنرال مظلوم عبدي، ونصت على احترام المكونات ومراعاة التمثيل العادل وإدارة المؤسسات المشتركة. لكن سرعان ما تعثرت بعد إعلان دستوري خالف بنودها، في إشارة إلى أن بعض مراكز القرار ما زالت تتعامل مع التفاهمات بصفتها أدوات تكتيكية، لا التزامات وطنية.

ثم جاءت اتفاقية نيسان بين مجلسي حيي الأشرفية والشيخ مقصود ومجلس محافظة حلب، لتحاول تطبيق شراكة خدمية وإدارية محلية. وقد أظهرت مؤشرات إيجابية على الأرض قبل أن تصطدم باستفزازات من وحدات عسكرية لا تزال تتصرف بمنطق الفصائل. وما حدث في الشيخ مقصود (جبل سيدة) الذي يمثل ذاكرة كرد حلب كان كافياً ليُعيد إلى المدينة كلها أصداء الحرب القديمة، إذ أدرك الجميع أن استقرار هذين الحيين يعني استقرار حلب نفسها.

تؤكد هذه الوقائع أن المقاربة الأمنية وحدها لا تكفي، وأن دمج المكونات المحلية في إدارة شؤونها ضمن منظومة وطنية هو شرط أساسي لأي استقرار حقيقي. فالمكونات السورية من الكرد في الشمال إلى الدروز في الجنوب، ومن السريان في حلب إلى العلويين في الساحل ليست نقاط ضعف، بل مصادر قوة إذا أُديرت بالشراكة والحوار. تجاهل هذه الحقيقة لا ينتج إلا مزيداً من التوترات، كما شهدنا في الساحل والسويداء.

السياسة هنا ليست تنظيراً مجرداً، إذ أن ثمة أطراف داخلية وخارجية تسعى لإفشال أي اتفاقية يمكن أن تشكل مخرجاً من العنف، إما بدافع مصالح إقليمية وإما بحسابات ضيقة مرتبطة بالنفوذ. لذلك، لا بدّ من أن يكون المعيار الوحيد هو مصلحة السوريين أنفسهم، لا رهانات الدول أو تحالفات القوة. فكل رهن للقرار الوطني يُعيد إنتاج الأزمة ذاتها بشكل جديد.

المكونات السورية بين الإقصاء والشراكة
التحدي الحقيقي اليوم هو بناء دولة تمثّل مواطنيها جميعاً من دون استثناء، بحيث يُترجم التنوع إلى طاقة سياسية واجتماعية بنّاءة، لا إلى أدوات صراع. الشراكة العادلة في مؤسسات الحكم ليست ترفاً أخلاقياً، بل ضماناً عملياً للاستقرار الطويل. فحين يشعر الناس أن صوتهم مسموع، وأن حقوقهم مصونة، تتراجع دوافع التمرد، وتتفتح إمكانية التحول من منطق النزاع إلى منطق البناء.

 

الرئيس السوري أحمد الشرع وقائد قسد الجنرال مظلوم عبدي يوقعان اتفاقية 10 آذار (سانا)
الرئيس السوري أحمد الشرع وقائد قسد الجنرال مظلوم عبدي يوقعان اتفاقية 10 آذار (سانا)

 

أما من يظن أن التصعيد العسكري سيمنحه مكاسب سياسية فورية، فهو يكرر الخطأ نفسه الذي قاد إلى الدمار. فدمشق نفسها لن تربح من هجمات متكررة أو اشتباكات في الأطراف، لأن النتيجة ستكون ترسيخ صورة دولية أكثر سلبية، وإضعاف ما تبقّى من الثقة بالحلول السياسية. والمسؤولية النهائية، مهما تعددت الجهات الفاعلة، ستقع على من يمتلك القرار ويحتكر أدوات الدولة.

المدنيون لا يقرأون بيانات النصر، بل يعيشون آثارها: مدارس مدمّرة، مستشفيات معطلة، ومياه وكهرباء مقطوعة. لذلك فإن أي استراتيجية لا تضع حماية المدنيين وحقوقهم في صلب أولوياتها محكومة بالفشل. إعادة المهجرين، ورفع الحصار، وفتح الممرات الإنسانية ليست امتيازات تُمنح، بل أسس لأي استقرار ممكن.

سوريا التي تبدأ من حماية ما تبقّى
المعركة الآن ليست على الجبهات فحسب، بل في عقل وقلب كل مسؤول سياسي وعسكري: هل نريد جيشاً وطنياً جامعاً؟ هل نريد اتفاقات حقيقية تؤسس لإعادة الإعمار وعودة المهجرين؟ هل نريد دولة تمثّل الجميع كشركاء لا كخصوم؟ الإجابات عن هذه الأسئلة ستحدد إن كان السوريون سيظلون أسرى العنف، أم سينتقلون إلى مشروع بناء جديد.

الخيبة قائمة، لأن الحلول المنطقية واضحة لكنها تصطدم بمصالح متشابكة تُتقن تعطيل العقل الوطني. مع ذلك، يبقى الأمل قائماً بما يمكن أن يبنيه السوريون معاً: جيش موحّد يستوعب الخبرات المحلية، واتفاقات تحفظ المدنيين، وتمثيل يُعيد للتنوع مكانته كركيزة للبناء لا كأداة استنزاف. فكل خطوة في هذا الاتجاه تبني الأخرى، وكل فشل في واحدة منها يعرقل الباقي.

سوريا التي نريدها تبدأ حين نقرر أن نحمي ما تبقّى من أمان، وأن نحوّل تنوعنا إلى مصدر قوة مشتركة، لا إلى سبب للخراب.

*كاتب وصحافي سوري

الأكثر قراءة

اقتصاد وأعمال 10/7/2025 5:24:00 AM
سترتفع كلفة تسديد مفاعيل التعميمين من نحو 208 إلى 260 مليون دولار شهريا، بزيادة نحو 52 مليون دولار شهريا
لبنان 10/6/2025 11:37:00 PM
افادت معلومات أن الإشكال بدأ على خلفية تتعلق بـ "نزيل في فندق قيد الإنشاء تحت السن القانوني في المنطقة".
لبنان 10/7/2025 1:21:00 PM
 النائب رازي الحاج: ابتزاز علني لأهل المتن وكسروان وبيروت
لبنان 10/7/2025 1:51:00 PM
في اتصال لـ"النهار" مع وكيل هذه العائلات المحامي محمد حبلص أكد أن ملف هذه العائلات يحظى بمتابعة من الوزير الحجار واللواء شقير "على عكس التجارب السابقة مع مسؤولين آخرين"