طوفان الاعترافات بدولة فلسطين: تفاؤل سياسي ولامبالاة شعبية
تفاوتت ردود الأفعال الفلسطينية إزاء الاعترافات الدولية المتتالية بدولة فلسطين، فبينما يراها جزء واسع من الشارع اعترافات شكلية لا تتجاوز كونها حبراً على ورق، يبدي المستوى السياسي تفاؤلاً حذراً بإمكان أن تفتح هذه الخطوة نافذة على انفراج سياسي دولي يعيد الزخم إلى القضية الفلسطينية.
في ليلة الاعتراف الفرنسي، قصدت "النهار" أحد المقاهي الشعبية في رام الله، الذي يفتح أبوابه على مدار الساعة. كان المكان مكتظاً بالزبائن؛ بعضهم يتبادل أطراف الحديث مع رفاقه وهو يحتسي القهوة أو الشاي، وآخرون منشغلون بلعب الورق أو تدخين النرجيلة. ورغم أن ثلاث شاشات كبيرة كانت تستعد لنقل الحدث من نيويورك، فإن الأنظار بالكاد التفتت إليها، وكأن الحاضرين غير معنيين بما يصفه الإعلام بأنه محطة بارزة في تاريخ الصراع.
أكرم، أحد رواد المقهى الدائمين، يقول وهو يلعب الورق إنه يقصد المكان كل ليلة هرباً من "الهموم ومشاهد حرب الإبادة". وعن رأيه في الاعتراف يجيب: "تأخر عشرين عاماً على الأقل، واليوم لم يتبقَ لنا سوى القليل من أرضنا في الضفة بعدما صادر (وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل) سموتريتش معظمها. ما يجري مسرحية فاشلة يؤدي أدوارها أسوأ الممثلين". ويضيف بلهجة حادة: "المسألة أعمق من مجرد اعتراف. أين موقف هذه الدول من شلال الدم المستمر في غزة؟ إنهم يهربون من مواجهة شعوبهم والتظاهرات التي تجتاح أوروبا نحو قرارات شكلية لإسكات المتضامنين. رؤساؤهم جبناء لا يتحركون إلا بأوامر الناتو والولايات المتحدة. المصالح أولاً، وكل ما عداها تفاصيل".

خارج المقهى، جلس أحمد مع أصدقائه، وأشعل سيجارته قبل أن يعلّق: "الفلسطينيون مُنهكون. عامان من الإبادة جعلانا لامبالين. جربنا المفاوضات فخسرنا الأرض، وجربنا الحرب فدُمِّرت مخيماتنا ودُمّرت غزة. الناس بحاجة إلى هدف جديد. القيادة خلقت فجوة مع الشارع. صمتُها أثناء الحرب، واكتفاؤها ببيانات التنديد والانتظار أفقدنا الثقة بها وبمشروعها الوطني. المستوطنون يعيثون في الأرض عربدة، والسلطة بعيدة عن أي فعل ملموس".
في ميدان المنارة، شاركت أم محمد في وقفة احتجاجية ضمت نحو مئة فلسطيني. كانت ترتدي قميصاً كتب عليه "أوقفوا الإبادة"، وتقول: "صرخت بالاعتراف الدولي بدولة فلسطين، لكن ما قيمته والإبادة مستمرة في غزة؟ نحن محاصرون في الضفة الغربية بحواجز لا تنتهي، ولا نستطيع حتى الوصول إلى القدس، عاصمتنا الأبدية".

ورغم أن البعض يقرأ الاعترافات الجديدة بوصفها تحوّلاً في المواقف الدولية بعد أن فرضت القضية الفلسطينية نفسها على الساحة العالمية، مدفوعة بمئات آلاف المتظاهرين حول العالم المطالبين بوقف الإبادة الجماعية والتهجير، إلا أن التخوف الشعبي الفلسطيني يبقى قائماً. فالكثيرون يرون أن إسرائيل ستسعى إلى تجريد الفلسطينيين من حقوقهم وسرديتهم، وأن نضال الشارع اليوم يتجاوز شعار "حل الدولتين" إلى مطالب أكثر جوهرية: وقف الإبادة، إنهاء الاستيطان، وتحرير الأسرى.
ويظل الاعتراف غامضاً من حيث مضمونه العملي، فلا حدود محددة للدولة، ولا ملامح واضحة للسلطة التي ستديرها. والانطلاق من فرضية "حل الدولتين" يبدو إشكالياً في ظل غياب أرض قابلة للحياة، وهو ما يعزز الجدل حيال التنازلات التي طرحها الرئيس الفلسطيني في خطابه الأخير.
من هنا، يطالب الفلسطينيون بتحويل الاعترافات إلى واقع ملموس، لا أن تبقى مجرد بيانات شكلية. فالواقع الميداني مغاير تماماً؛ إسرائيل سيطرت على مساحات واسعة من الضفة والقدس، قطعت أوصالها الجغرافية والسياسية، وتفرض احتلالاً مطلقاً يمنع أي سيادة أو استقلال فعلي.
ويؤكد ناشطون أن الاعتراف لن يكتسب وزنه إلا إذا ترافق مع استراتيجية فلسطينية متماسكة، تقوم على إنهاء الإبادة والحرب، وتحقيق الوحدة الوطنية، وإنهاء الاحتلال وصولاً إلى استقلال حقيقي. كما يشددون على ضرورة خلق "حقائق جديدة" سياسية وقانونية لدولة بحدود معترف بها دولياً، وربط الاعتراف بمطالب واضحة لإزالة الاحتلال وفق القانون الدولي، مع تعبئة الجهود الديبلوماسية العربية والدولية، ومواصلة النضال القانوني والسياسي لضمان ألا تتحول الاعترافات إلى مجرد شعارات بلا أثر عملي.
نبض