بين الحظر والممر: الأجواء السورية كعامل حاسم في صراع إيران وإسرائيل
منذ اللحظة التي أعلن فيها رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو أن "المجال الجوي" هو النقطة الأكثر خلافية في المفاوضات بين دمشق وتل أبيب، بدا واضحاً أن القضية تجاوزت الطابع العسكري لتصبح جوهر الاتفاق الأمني كله. لم يعد الأمر مقتصراً على إعادة تفعيل خط وقف إطلاق النار لعام 1974 أو تعديل خرائط الجنوب، بل تحوّل إلى نقاش حيال معنى السيادة السورية نفسها: هل تبقى السماء فضاءً متنازعاً، أم تتحول إلى منصة منظمة لمعادلات الردع بين إسرائيل وإيران؟
التسريبات التي نشرها موقع "أكسيوس"، وأعادت بعض الصحف تداولها، كشفت أن إسرائيل لا تبحث فقط عن إعادة انتشار للقوات في الجنوب، بل عن ترتيبات جوية بالغة الحساسية. المقترحات تراوحت بين منطقة حظر طيران واسعة، أو ممر جوي عملياتي يتيح لها العبور شرقاً نحو إيران، أو الاكتفاء بصيغة غامضة تُترك لتفاهمات ميدانية غير معلنة. حتى وإن ظل الغموض هو السيناريو الأكثر ترجيحاً، فإن مجرد طرح البدائل يكشف حجم التحول الذي تسعى إليه تل أبيب.
في القانون الدولي، السيادة على الأجواء مطلقة. لكن إدخال أي بند يقيد هذه السيادة، ولو باسم المراقبة أو الضمانات الأمنية، يمنح عملياً غطاءً لإسرائيل لتبرير تحركاتها. وهنا تكمن الخطورة: للمرة الأولى يمكن أن تتحول الضربات الإسرائيلية من خرق لسيادة بلد آخر إلى "إجراءات دفاعية" يُنظر إليها بوصفها جزءاً من اتفاق ثنائي، وهو ما يعني بالنسبة لإيران خسارة ورقة سياسية طالما استندت إليها. وهذا ما يفسر قلق طهران الذي يعبّر عنه الباحث السوري مالك الحافظ بقوله إنّ "ما يقلق طهران هو أن الاتفاق الأمني سيمنح إسرائيل شرعية في استخدام الأجواء السورية لملاحقة أي نشاط تعتبره تهديداً لها، وهو ما يُفهم في إيران كتحوّل نوعي، حيث سيرسخ صورتها كقوة منبوذة".

هذا النقاش ليس نظرياً. ففي المواجهة السابقة بين إسرائيل وإيران، كانت السماء السورية مسرحاً غير معلن للعبور والاشتباك. تساقطت الشظايا فوق درعا وأطراف دمشق وريف طرطوس، ليجد المدنيون أنفسهم في قلب حرب لم يُعلن عنها رسمياً. بالنسبة إلى طهران، تلك التجربة لم تكن حادثاً عابراً بل جزءاً من مرحلة ممتدة، ويقول الحافظ لـ"النهار": "أي تفاهم أمني بين السلطة السورية وإسرائيل لا يُقرأ فقط بصفته تسوية حدودية أو تقنية عسكرية، بل يُفهم كإعلان رسمي عن نهاية مرحلة كاملة… فقدان هذه الحلقة يعني أن إيران لم تعد طرفاً مقرراً في أمن المشرق، بل غدت قوة مُستبعدة من ترتيبات جديدة تُصاغ برعاية أميركية وإسرائيلية".
غير أن سقوط نظام بشار الأسد قلب المعادلة. فبانسحاب القوات الإيرانية وانقطاع خط الإمداد إلى "حزب الله"، فقدت طهران فجأة أهم بوابة برية وجوية إلى شرق المتوسط. أي اتفاق أمني جديد بشأن الأجواء لن يكون مجرد تقييد محتمل، بل خطوة لترسيخ واقع استراتيجي تُستبعد فيه إيران كلياً.
ولذلك لا تقتصر القضية على البعد الرمزي، بل تتجسد عملياً في خطوات ملموسة: تعليمات للطيران تحدد مناطق محظورة، إنشاء آليات مراقبة مشتركة أو أممية، وتقييد حركة الطائرات السورية في الجنوب. مثل هذه الخطوات، حتى إن لم تُعلن رسمياً، كفيلة بتقليص أي هامش لإيران، وتمنح إسرائيل حرية أكبر للتحرك. وفي هذا السياق، يوضح اللواء السابق محمد عباس، لـ"النهار"، أن "الاتفاق الذي يفتح المجال الجوي السوري لإسرائيل يمنح تل أبيب قدرة فعلية على مواجهة الصواريخ والطائرات قبل عبورها، لأن سوريا اليوم لا تملك الوسائط الدفاعية للتصدي".
أمام هذا الواقع، تتقلص خيارات إيران إلى ثلاثة مسارات محتملة: إعادة التموضع الإقليمي عبر العراق واليمن وفتح مسارات بديلة لدعم "حزب الله" رغم خطورتها؛ إبقاء الملف السوري مفتوحاً في المحافل الدولية للتشكيك في شرعية الاتفاق؛ أو تطوير قدرات الإطلاق البعيد المدى لتجاوز الحاجة إلى الممرات الإقليمية. لكن كل مسار منها يحمل صعوبات كبيرة. وهذا ما يلخصه الحافظ حين يرى أن إيران تقرأ هذا الاتفاق على أنه "إعادة ترسيم للخريطة السياسية والأمنية للمنطقة، بحيث تصبح سوريا جزءاً من منظومة لا مكان فيها لإيران. المأزق لديها الآن تحوّل الخروج القسري إلى نفي استراتيجي طويل الأمد، وفقدان طهران واحدة من أهم ساحات نفوذها التي استثمرت فيها لعقد كامل".
بالنسبة لطهران، خسارة الأجواء السورية ليست حدثاً عابراً بل تحولاً استراتيجياً يفرض إعادة صياغة عقيدتها الأمنية. فالسماء التي كانت ممراً لصواريخها قد تصبح محمية لصالح خصمها، وأي محاولة مستقبلية لاستخدامها ستُعد خرقاً لاتفاق دولي. ويشرح اللواء عباس: "سقوط النظام وتحول دمشق إلى محور جديد أخرج إيران عملياً من بوابة استراتيجية كانت تربطها بلبنان… هذا الاتفاق يعني فقدان عمق استراتيجي لطهران، وليس مجرد خسارة قواعد".
في ضوء هذه القراءات، يبدو أن إيران تواجه عزلة استراتيجية فيما ترى إسرائيل في الاتفاق فرصة لترسيخ شرعيتها الجوية. وعليه فإن الخلاف على الأجواء لا يتعلق بخطوط تُرسم على الخرائط، بل بإعادة تعريف موقع سوريا في معادلة الردع. فإذا أُقرّ الحظر أو الممر، فإن إيران ستخسر ركيزة استراتيجية اعتمدت عليها طويلاً، فيما تتحول إسرائيل من قوة تخترق الأجواء إلى قوة تملك غطاءً سياسياً وقانونياً. وبين الغموض والحظر والممر، تبدو النتيجة شبه مؤكدة: تل أبيب تحصل عملياً على ما تريد، فيما يُغلق الباب أمام أي عودة إيرانية إلى السماء السورية.
نبض