المشرق-العربي 23-09-2025 | 06:05

صراع نفوذ تركي - إسرائيلي في سوريا تحت السقف الأميركي: "ممر داوود" واستقطاب الأقليات يعيدان رسم خرائط التنافس

منذ سقوط النظام السابق، تحرّكت أنقرة لترسيخ نفوذها عبر إعادة هيكلة مؤسسات الأمن والجيش، وضبط المعابر، وتوسيع حضورها الاقتصادي والخدمي. في المقابل، تسعى تل أبيب إلى منع أيّ قوة إقليمية غير حليفة من تثبيت موطئ قدم قرب حدودها.
صراع نفوذ تركي - إسرائيلي في سوريا تحت السقف الأميركي: "ممر داوود" واستقطاب الأقليات يعيدان رسم خرائط التنافس
عنصر من الأمن السوري يقف حارساً عند نقطة تفتيش بالقرب من مدينة القنيطرة في جنوب البلاد. (أ ف ب)
Smaller Bigger

بعد ساعات قليلة من لقاء جمع رئيس الاستخبارات التركية إبراهيم كالن بالرئيس السوري أحمد الشرع في دمشق، أعلن الأخير اقتراب توقيع اتفاق أمنيّ مع إسرائيل. التصريح بدا وكأنه جزء من "هندسة سياسية" أوسع تديرها الولايات المتحدة، وسط تسريبات عن ضغوط مباشرة من الرئيس الأميركي دونالد ترامب لتسريع التفاهم بخطوط أولية تشمل انسحاباً إسرائيلياً محدوداً من الجنوب، وإعادة تفعيل خطوط فصل 1974، ووقف الغارات الجوية والتوغلات البرية، مع إبقاء ملف الجولان مؤجلاً. اللافت أن أنقرة، رغم أن مثل هذا الاتفاق قد يقيّد نفوذها، لم تُبدِ اعتراضاً علنياً، ما يثير تساؤلات بشأن ما إذا كانت تراهن على حصر الترتيبات في الجنوب أو تفضّل انتظار الصيغة النهائية قبل تحديد موقفها.
هنا، تبرز خريطة تنافس معقدة بين تركيا وإسرائيل داخل سوريا. فمنذ سقوط النظام السابق، تحركت أنقرة لترسيخ نفوذها عبر إعادة هيكلة مؤسسات الأمن والجيش، وضبط المعابر، وتوسيع حضورها الاقتصادي والخدمي. في المقابل، تسعى تل أبيب إلى منع أي قوة إقليمية غير حليفة من تثبيت موطئ قدم قرب حدودها، عبر إنشاء مناطق عازلة والحفاظ على حرية حركتها الجوية والاستخباراتية. تركيا ترى وجودها ضرورة لحماية أمنها القومي ومنع قيام كيان كرديّ مسلّح، بينما ترى إسرائيل أن هذا الوجود يقيّد قدرتها على مواجهة إيران أو التحكّم بالترتيبات الأمنية في الجنوب.
هذا التباين جعل من سوريا ساحة تنافس مفتوحة، تبادل فيه الطرفان الاتهامات علناً: أنقرة تتهم إسرائيل بزعزعة الاستقرار عبر ضربات جوية متكررة، وتل أبيب تصف التدخل التركي بمحاولة تحويل سوريا إلى "محمية تركية".
أحد أبرز ملامح هذا التنافس هو ما يُعرف بـ"ممر داوود"، وهو مشروع جغرافي–أمني تتداوله أوساط إسرائيلية وإقليمية، يهدف إلى ربط مناطق النفوذ الإسرائيلي في الجنوب بمحاور تمتدّ شمالاً وشرقاً. ويرى بعض المحللين أن تمدد هذا الممر شمالاً سيحدّ من قدرة تركيا على التمدد في الوسط والبادية، وسيجعل نفوذها محصوراً في الشمال والشمال الغربي. بالنسبة إلى أنقرة، هذا يعني فقدان أوراق ضغط جغرافية أساسية في أيّ تسوية مستقبلية.
كذلك، يشكّل استقطاب الأقليّات ساحة تنافس ناعمة. تركيا تميل إلى دعم المكونات التي تعيق الطموحات الكردية الانفصالية، مع محاولة كسب ولاء بعض المكونات السنية والمسيحية عبر مشاريع خدمية وتنموية. في المقابل، تركّز إسرائيل على تعزيز حضورها لدى بعض الكيانات الكردية أو مجموعات درزية في الجنوب، وتوظف خطاب "حماية الأقليات" لتبرير تدخلاتها. هذا السباق الاجتماعي–السياسي يضيف طبقة جديدة من الانقسام الداخلي، ويمنح كل طرف أدوات ضغط تتجاوز البعد الجغرافي.
وفي مؤشر عملي على هذا التنافس، نشرت وزارة الدفاع التركية أخيراً صوراً لتفقّد قائد القوات البرية جنوداً سوريين أثناء تلقّيهم تدريباً على منظومة دفاع جويّ من إنتاج "أسيلسان". هذا الظهور العلني في ملف حسّاس كالقدرات الجوية يمكن قراءته كرسالة إلى الداخل السوري بأن أنقرة شريك مباشر في بناء القدرات؛ ولإسرائيل بأن النفوذ التركي يمتد إلى ما يمسّ حرية حركتها الجوية؛ ولواشنطن بأن تركيا تملك أوراقاً ميدانية للضغط إذا همّشها أي اتفاق سوري–إسرائيلي. ويمكن ربطه بمشروع "ممر داوود"، إذ يوحي بأن أنقرة لن تقبل بحصر نفوذها شمالاً إذا وسّعت تل أبيب نطاق سيطرتها.

 

الرئيس السوري أحمد الشرع مستقبلاً رئيس الاستخبارات التركية إبراهيم كالن في دمشق. (أ ف ب)
الرئيس السوري أحمد الشرع مستقبلاً رئيس الاستخبارات التركية إبراهيم كالن في دمشق. (أ ف ب)

 

زيارة الشرع إلى واشنطن، وما تلاها من تسريبات عن ضغوط أميركية، جاءت ضمن ديناميكية ثلاثية: لقاء كالن–الشرع في دمشق، مفاوضات أمنية سورية–إسرائيلية برعاية أميركية، ونقاشات إسرائيلية داخلية حيال ترتيبات تشمل أمن جبل الشيخ ومناطق عازلة موسعة مقابل انسحابات محددة. هذا التزامن يوحي بأن واشنطن تدير "هندسة فصل" جديد، لا اتفاق سلام شاملاً، مع مراعاة خطوط الطيران الإسرائيلي ومصالح الأردن والسعودية، فيما تتابع أنقرة التطورات من زاوية تقييد ذراعها في الوسط والبادية إذا تمددت الترتيبات جنوباً.
الغموض المحيط بتفاصيل الاتفاق، وتزامنه مع تحركات تركية نشطة في مجالات الأمن والتجارة والبنية التحتية، يجعلان من الصعب فصل المسارات. فالتطورات قد تعكس إعادة توزيع للأدوار بين أنقرة وتل أبيب برعاية أميركية، أو تفاهماً ضمنياً على تقاسم النفوذ بحيث يمسك كل طرف بأوراق ضغطه دون مواجهة مباشرة.
ويبدو أن ملامح التنافس التركي–الإسرائيلي ستظل مرهونة بقدرة كل طرف على تثبيت خطوط نفوذه. فإذا مضى مشروع "ممر داوود" شمالاً، فقد نشهد طوقاً جغرافياً يحدّ من حركة أنقرة، ويدفعها إلى تعزيز وجودها العسكري واللوجستي أو البحث عن تفاهمات دولية ومحلية لكسر هذا الطوق. وإذا بقي محصوراً في الجنوب، فقد تركز إسرائيل على تعميق نفوذها عبر ترتيبات أمنية ومراقبة ميدانية، مع استمرار الضربات الوقائية لأي تموضع تركي تعتبره تهديداً. أما على المستوى الاجتماعي، فسيبقى سباق استقطاب الأقليات أداة ضغط متبادل طويل الأمد.
السيناريو الأكثر ترجيحاً هو "تقاسم وظائف" موقت برعاية أميركية: إسرائيل تضبط الجنوب والسماء، وتركيا تمسك بالشمال وسلاسل الإمداد، فيما تبقى مناطق الوسط والبادية مناطق تماس قابلة لإعادة التفاوض. لكن هشاشة هذه المعادلة – سواء بفعل تمدد "ممر داوود" أو تغيّر ولاءات بعض المكونات المحلية – تجعل أي تفاهم عرضة للاهتزاز السريع ولإعادة رسم الخرائط.

الأكثر قراءة

العالم العربي 9/29/2025 5:14:00 PM
"نحن أمام مشروع ضخم بحجم الطموح وبحجم الإيمان بالطاقات"
اقتصاد وأعمال 9/29/2025 10:48:00 AM
في عام 1980، وصل الذهب إلى ذروته عند 850 دولارًا للأونصة، وسط تضخم جامح وأزمات جيوسياسية. وعند تعديل هذا السعر لمستويات اليوم، يعادل حوالي 3,670 دولارًا.
اقتصاد وأعمال 9/30/2025 9:12:00 AM
كيف أصبحت أسعار المحروقات في لبنان اليوم؟ 
النهار تتحقق 9/30/2025 9:34:00 AM
العماد رودولف هيكل ووفيق صفا جالسين معاً. صورة قيد التداول، وتبيّن "النّهار" حقيقتها.