"النهار" تعاين هجمات المستوطنين في الضفة: روتين يومي يواجهه الفلسطينيون بلا حماية
تقع بلدة ترمسعيا شمال شرق مدينة رام الله، وتبعد منها 23 كيلومتراً. غالبية سكانها من حملة الجنسية الأميركية، ويعيش أكثر من 80 في المئة منهم (من أصل 12 ألف شخص) بين الولايات المتحدة والبرازيل وبنما والإمارات العربية المتحدة. لكن كما يقول الأهالي، فإن جنسيتهم الأميركية لم تشفع لهم أو تغيّر من طريقة السلطات الإسرائيلية في التعامل معهم، فبالنسبة إليها يبقى الاعتبار الأول أنهم فلسطينيون.
في السهل المحاذي لمستوطنة "شيلو" التي أُقيمت على أراضي البلدة وقريتي جالود وقريوت المجاورتين، تعيش عائلة أبو عواد المكوّنة من 25 فرداً في بيت بناه والدهم عام 1970 فوق أرضهم، والتي تبلغ مساحتها دونمات عدة في الجهة الشرقية من البلدة،. وقد حصلوا حينها على تصريح قانوني من الإدارة المدنية الإسرائيلية، كما يمتلكون أوراقاً ثبوتية بملكية الأرض والبيت.
التقت "النهار" عبد الله أبو عواد بعيداً من بيته، إذ تمنع القوات الإسرائيلية الصحافيين والأقارب من الاقتراب منه أو الدخول إليه، وتسمح فقط لأفراد العائلة. ويقول عبد الله إن عائلته تعيش "أصعب أيام حياتها، وتتعرض لاعتداءات يومية ليل نهار".
ويضيف: "يضم البناء خمس شقق سكنية، وهو بعيد عن باقي البيوت في السهل، حيث يقع بين كرمي عنب تابعين للمستوطنة، قرب المنطقة الصناعية التي أقامها المستوطنون أخيراً. خلال السنوات الماضية تعرضت لهجمات واعتداءات متكررة من المستوطنين الذين دمّروا المنزل وأحرقوا السيارات، لكنها تصاعدت بعد الحرب، خصوصاً في كانون الثاني/يناير 2024 حين كان الهجوم كبيراً، إذ قام المستوطنون بتكسير أجزاء من البيت. وقبل أيام فقط حطموا ألواح الطاقة الشمسية ودمّروا الإضاءة بالكامل، كما حطموا نوافذ المنزل والسقف المتهالك، وبما أننا ممنوعون من البناء أو الترميم فقد انهار السقف وأصبح المنزل بلا سقف".
ويتابع عبد الله: "يحاول المستوطنون استفزازنا بكل الطرق، الهجوم، التكسير، الموسيقى الصاخبة، الشتائم، وافتعال المشاكل، لإجبارنا على المغادرة. لكننا لن نغادر، فهذا مستحيل. هذه أرضنا، ونحن موجودون هنا منذ ما قبل بناء المستوطنة". ويوضح أن "الكرفانات تمثل المنطقة الصناعية التي صادر المستوطنون أرضها وحفروها قبل الحرب، كما صادروا كروم العنب والأراضي المزروعة في السهل. وقبل شهرين فقط قطعوا 600 شجرة زيتون".
ويلفت إلى أن المواقف التي يواجهونها يومياً تترك أثراً نفسياً كبيراً، خصوصاً على الأطفال، مضيفاً: "نحاول ضبط أنفسنا قدر الإمكان، ولا نتفاعل أو نرد على المستوطنين حين يضايقوننا. لا نضربهم ولا نواجههم بعنف، حتى أننا لا نقترب منهم، لأن هدفنا هو الصمود وتثبيت وجودنا".

وفي الجهة الأخرى من القرية، يمتلك المهندس وديع علقم (أبو خالد) عزبة وأرضاً. في الرابع من آب/أغسطس وصل إلى عزبته صباحاً، ولدى دخوله فوجئ بأن البيت محروق بالكامل. فقد قام المستوطنون بقص السياج المحيط ودخلوا منه وأشعلوا النار باستخدام مادة شديدة الاشتعال. ولم يكتفوا بذلك، بل خطّوا تهديدات على واجهة المنزل توعدوا فيها الفلسطينيين وقائد منطقة الضفة الغربية آفي بلوت بـ"الانتقام".
وعندما تواصلت "النهار" مع أبو خالد، طلب أن نذهب إلى العزبة قبل الساعة الواحدة ظهراً. وعندما سألته عن السبب أجاب: "المستوطنون في البؤرة الاستيطانية ينامون في الصباح بعد أن يقضوا الليل في الهجوم والاعتداء والتخريب في البلدة والقرى المجاورة، وينشطون بعد الظهر". وعند صعودنا معه إلى شرفة المنزل، تبيّن أن المستوطنين لم يتركوا ركناً أو كوخاً في المنطقة إلا أحرقوه أو دمروه. يوضح أبو خالد أنّ الشرطة العسكرية والجيش حضروا عندما أبلغناهم عن الحريق، وجاؤوا للتحقيق وأخذ الإفادات، لكننا "لا نتوقع منهم الكثير". ويشدّد: "نحن متجذرون في أرضنا كشجر الزيتون، ومتمسكون بها، وسنُدفن فيها".
ويختم حديثه بالقول: "أشعر بالحزن لأن ألعاب أحفادي احترقت، لكننا لن نترك ولن نتحرك شبراً واحداً". ولدى سؤاله عن رأيه في اعتراف بعض الدول الأوروبية وكندا بالدولة الفلسطينية، يبتسم ويجيب ساخراً: "عن أي دولة يتحدثون؟ (بتسلئيل) سموتريتش صادر كل الأراضي! أما المستوطنون، فهل فكّر أحد بما سيفعلون بهم لاحقاً؟".

اعتداءات ممنهجة
تحوّلت هجمات المستوطنين في الضفة الغربية إلى روتين يومي، إذ تواجه القرى والبلدات مصيرها منفردة بعدما فُصلت عن محيطها بالبوابات والكتل الأسمنتية والسواتر الترابية. وقد جعلت هذه الإجراءات التنقل بين القرى من أصعب المهمات اليومية، فيما أدى إغلاق المداخل الرئيسية إلى عرقلة الوصول إلى الأراضي الزراعية ومراكز الخدمات والمدن الكبرى. لكن الأصعب من ذلك كله أن يجد الفلسطيني نفسه وحيداً في مواجهة الهجمات المنظمة التي ينفّذها "فتيان التلال" المنتشرون على امتداد الضفة، من مسافر يطا جنوباً وحتى جنين شمالاً.
وتتميّز هجمات المستوطنين وانتهاكاتهم ضد المدنيين الفلسطينيين في القرى والتجمعات السكانية بأنها منظمة وممنهجة، وتتم بمساندة وحماية مباشرة من الجيش الإسرائيلي. وكما يقول الفلسطينيون: "الدولة هُم، وهُم الدولة". هذه الاعتداءات تتفاوت بين الضرب المبرح، ورش غاز الفلفل السام على الوجوه، وإطلاق الرصاص الحي الذي أوقع شهداء وأدى إلى إصابات خطيرة، كما حدث في قرى ترمسعيا وكفر مالك وسنجل والمزرعة الشرقية وسلواد.

وبحسب التقرير الشهري لـ"هيئة مقاومة الجدار والاستيطان الفلسطينية"، فقد "سُجّل الشهر الماضي 466 اعتداء، تركز معظمها في محافظات رام الله والخليل ونابلس، وأدت إلى سقوط عشرة شهداء".
كذلك، تتكرر عمليات حرق ممتلكات الفلسطينيين، بما في ذلك منازلهم ومركباتهم ومنشآتهم الزراعية، في محاولة لبث الرعب بينهم ودفعهم إلى الرحيل، في سياق يهدف إلى تفريغ هذه المناطق من سكانها الأصليين عبر الضغط المتواصل واليومي على تفاصيل حياتهم المختلفة.
وبات "فتيان التلال" يتحركون كميليشيات منظمة مدججة بالسلاح، أحياناً بلباس عسكري وأحياناً أخرى بزي مدني ويلبسون الأقنعة، تحت غطاء مباشر من الجيش الإسرائيلي.
هذا النمط من الهجمات المنسقة يعزز القناعة بأن ما يجري ليس اعتداءات عشوائية، بل سياسة ممنهجة تهدف إلى تهجير السكان الفلسطينيين وإعادة هندسة الجغرافيا السكانية والديموغرافية في الضفة الغربية.
نبض