العراق وتحدّي الدولة الموازية
لم يعد الحديث في بغداد عن وجود الدولة الموازية والسلاح الرديف مجرد اتهام بل اصبح واقعاً ملموساً حين أمسكت الفصائل المسلحة بالسلطة التنفيذية منذ عام 2018 ، ومروراً باعلانها امتلاك قرار الحرب ورفع شعار وحدة الساحات بعد 7 تشرين الأولاكتوبر2023 ، وليس انتهاءً بالتصادم المسلح مع القوات الامنية في نهاية تموزيوليو 2025.
يمثل وجود المليشيات المسلحة تحدياً مباشراً لكيان الدولة ومؤسساتها السياسية والامنية والاقتصادية والاجتماعية، فرغم ان تشكيل هذه الكيانات كان ظاهره مقاومة " الاحتلال الاميركي"، إلا انه تجاوزه الى تأسيس كيان موازٍ للدولة العراقية بعد مرحلة "داعش"، مستندين بذلك على البناء العقائدي والأجندات الاقليمية التي غذّت بشكل اساس فكرة البقاء "قوة ضبط" تحت مبرر الحفاظ على النظام السياسي، في حالة مماثلة لمهمات الحرس الثوري الإيراني ودوره. لذا عملت هذه المجموعات على الممازجة بين السلاح والعمل السياسي، وتُحول السلاح الى مؤسسات شبه مستقلة داخل المؤسسة الامنية، وتمتعت بنفوذ يفوق سلطة الدولة في بعض المواقف. كذلك لعبت دوراً فعّالاً في الصراعات الإقليمية بمشاركتها في عمليات خارج حدود العراق. لذا تُعَدُّ الأخطر على الدولة العراقية من حيث التهديد المباشر لاستقلال القرار السياسي والأمني، بعد اعتمادها استراتيجية "القرار الرديف" الذي مثل واقعاً هجيناً تتداخل فيه السلطة الرسمية وسلاحهم، مما أدى إلى نشوء دولة ظاهرية تمثلها الحكومة والقوات الامنية ودولة فعلية موازية تمثلها الفصائل المسلحة.
يواجه العراق الرسمي خطوات فعلية من الدولة الموازية تتمثل باعادة هيكلة الدولة الرسمية من خلال تغلغل الفصائل وأجنحتها السياسية في المؤسسات الحكومية، وتحويل الوزارات إلى أدوات تنفيذ غير مباشرة لإرادتها. هذا التغلغل لم يُظهر ضعف الدولة فحسب، بل مكّن الفصائل المسلحة من إعادة إنتاج سلطتها من داخل المؤسسات ومنح الشرعية لأنشطتها غير القانونية لتأصيل الدولة الموازي. وقد تكون المعادلة السياسية التي فرضتها الفصائل من خلال السلاح والتي ادت الى انبثاق حكومة محمد السوداني، من أبرز الأمثلة على تثبيت الدولة الموازية، مما انعكس على اداء الحكومة اولاً والخدمات التي تقدمها تالياً. ومع محاولات السوداني إنقاذ حكومته باجراء تعديل وزاري إلا انه أحبط بفعل قرار من الدولة الموازية، مما يؤشر الى المستوى التي وصلت اليه هذه الكيانات من التحكم بالمشهد السياسي في العراق وتحويل الحكومة الى مؤسسة عاجزة.
لم يتوقف تحدي هذه الجماعات عند خلق حالة سياسية وأمنية موازية، بل تجاوز ذلك الى خلق حالة مجتمعية موازية للهوية الوطنية، اذ ان تركيزها على الولاء الطائفي ادى الى انقسام مجتمعي طائفي بالاعتماد على تغذية العواطف بشعارات ماضوية، ما جعلها فاعلاً اجتماعياً يملك النفوذ الرمزي والفعلي في الوقت نفسه. لقد أفرز هذا الواقع انقسامات مجتمعية عميقة، ليس بين الطوائف فحسب بل داخل الطائفة الواحدة. لذا، فبقاء هذه الفصائل بهذا الشكل لا يُهدد الدولة ككيان قانوني فحسب، بل يُقوّض أيضاً الثقة المجتمعية في العدالة والمواطنة.
ان تفكيك الكيانات الرديفة قد يبدأ من حصر السلاح بيد الدولة، إلا ان هذا المشروع نفسه يواجه تحديات معقدة، فتمدد الميليشيات وهيمنتها على مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية والاقتصادية، جعل حلّها وحصر سلاحها أشبه بـ"تفكيك دولة داخل الدولة"، وهو يتطلب إرادة سياسية لا تملكها حتى الآن أي حكومة بسبب هشاشة التوافقات وتوازنات القوى، وضعف القرار السياسي، وهيمنة الفاعل السياسي الشيعي وايران الذي ترسخت قناعة لديه بأن هذا السلاح هو ضمان لحماية مصالحة واستمرار وجوده، مما يفتح الباب امام فعل خارجي أميركي بأدوات وسيناريوهات عديدة لانهاء وجود الدولة الموازية في العراق.
نبض