غزّة تودّع أنس الشريف ومحمد قريقع وغيرهما... شهود الحقيقة تحت القصف (فيديو)

في خيمة صغيرة قرب بوّابة مجمع الشفاء الطبي، كان أنس الشريف ومحمد قريقع يخطّان بعيونهما وعدساتهما فصول الحكاية الأخيرة... حكاية المجاعة، وحصار الخبز، والبرد، والخوف. كانا يصفان المشهد بصوتٍ مبحوح من الجوع والإنهاك، بينما الانفجارات تهزّ الأرض تحت أقدامهما.
قبل أن يخطفهما القصف الإسرائيلي، قال أنس بصوتٍ اختلط فيه الحزن بالعزم:"القصف لا يتوقف منذ ساعتين... العدوان يشتد على غزة". لم يكن يعرف أن هذه الكلمات ستكون وصيته الأخيرة.
أنس، الذي لم يرَ ابنه صلاح إلا مرات معدودة، كان يحلم أن تنتهي الحرب ليحتضنه طويلاً، أن يعرف كيف صارت ملامحه، وكيف يكبر بلا خوف. كتب قبل أيام: "في هذه الحرب كأن الزمن لا يُعرف إلا بعدد أيامها… هذه الأيام تطحن عظامنا وتقتات على أمعائنا الخاوية".
لكن الزمن انكسر، وانقطعت الأيام عند لحظة القصف، تاركاً صورته الأخيرة محمولة على أكتاف الرفاق.
في الاقتحام الثاني لمستشفى الشفاء، قبل أشهر معدودات، لم تخفِ الحرب وجعها، فكانت والدة محمد قريقع ضحية أخرى قضت تحت ركام القصف. دفنها محمد في أرض المستشفى نفسها، مكان ألم لا ينسى، وهناك، وسط الحطام والدموع، وعد بأن يحمل الثأر في قلبه وذاكرته.
جرح آخر
في قلب المأساة، كان لأنس جرحٌ آخر لم يلتئم بعد. قبل أشهر، قصفت طائرات الاحتلال منزل عائلته في مخيم جباليا، فاستشهد والده جمال، الرجل الذي ربّاه على الصدق والكرامة. لم يتمكّن أنس من وداعه كما يليق بالآباء، فقد دفنه على عجل في ساحة مدرسة تؤوي نازحين، بينما القصف يملأ السماء. كان يقول يومها إن الاحتلال لا يريد للصورة أن تخرج، وإنه سيواصل التصوير مهما كان الثمن. ربما لم يكن يعرف أن ثمن الصورة سيكون حياته، وأنه سيعود ليلحق بأبيه، تاركا مقعده الفارغ في الخيمة وصلاح الصغير يكبر على ذكراه.
إلى جانبه رحل محمد قريقع، الذي كان يلتقط الصورة بيد، ويشد على قلبه باليد الأخرى. كلاهما انضمّ إلى قافلة من سبقوه من الصحافيين، واستقبلهما هناك إسماعيل الغول، صديقهما الذي اغتاله القصف قبل أسابيع، كأن الموت في غزة صار موعداً بين الرفاق، مؤجَّلاً لكنه محتوم.
في الجنازات التي كان أنس يغطّيها، كان يصرخ ضد القتل والصمت. واليوم، صار هو الجنازة التي يصرخ الآخرون لأجلها. رحل وفي صوته بقايا صدى الحقيقة التي أراد الاحتلال أن يُطفئها. لكنه ترك لنا صوراً وكلمات، تظلّ، مثل رائحة الخبز في الأزقّة الجائعة، لا تمحوها نيران الحرب.
في ما تبقى من بيت أنس، سيكبر صلاح الصغير وشقيقته شام على غياب ثقيل. سيحملان لقب الأيتام ويتذكران حضناً لم يكتمل، وستحمل شام في قلبها ملامح أبيها التي لم تكتمل في ذاكرتها بعد. بين صورهما المعلّقة وكلماته التي تبقى حيّة، ستتعلم غزة أن الحبر قد يتيتم، لكن صوته لا يموت.
كان أنس يعرف أن الطريق الذي يسلكه محفوف بالموت، لكنه ظلّ يسير فيه بعناد العاشق للحقيقة. كتب ذات يوم، وكأنه يحدّثنا من وراء الغياب: "إن وصلَتكم كلماتي هذه، فاعلموا أن إسرائيل قد نجحت في قتلي وإسكات صوتي. يعلم الله أنني بذلت كل ما أملك من جهد وقوة لأكون سنداً وصوتاً لأبناء شعبي. كان أملي أن يمدّ الله في عمري حتى أعود مع أهلي وأحبّتي إلى بلدتنا الأصلية عسقلان المحتلة- المجدل، لكن مشيئة الله كانت أسبق، وحكمه نافذ".
هكذا، ترك لنا وصيته محفورة في الذاكرة، لا كبكاء الوداع، بل كعهدٍ على أن صوته سيظل يتردّد في أزقة غزة وبين خرائبها، ما دام فيها طفل يبحث عن خبز وأمّ ترفع عينيها إلى السماء.