خطاب الشرع أمام القمة العربية... تراجع النبرة وحضور أدبيات النظام السابق

بعد إلقائه أول خطاب له أمام محفل عربي، خطا رئيس سوريا الانتقالي أحمد الشرع خطوة مهمة على صعيد تكريس النظام الجديد لبلاده. لكن المفارقة أن مضمون الخطاب، وكذلك مضمون بعض التصريحات التي أدلى بها رداً على أسئلة الصحافيين، أثارا تساؤلات كثيرة عن الفرق بين خطاب النظام الجديد والنظام السابق، خصوصاً على صعيد المواقف من القضايا العربية والعلاقات مع الدول.
ويمكن القول إنه بعد قرابة ثلاثة أشهر من تسلم الشرع ملفات الحكم في سوريا، لم تستطع الديبلوماسية السورية إنتاج خطاب مختلف عن أدبيات النظام السابق.
ووقع الشرع في بداية الخطاب بمغالطة واضحة عندما ذكر أن سوريا تعود إلى القمة العربية بعد سنوات من الغياب، إذ كان الرئيس السوري السابق بشار الأسد حضر قمة استثنائية في جدة قبل أقل من ثلاثة أسابيع على سقوطه، في حين كانت سوريا عادت رسمياً إلى القمة العربية العام الماضي.
وربما تعمد الشرع ربط العودة بحضوره هو فعاليات القمة الطارئة، من باب عدم الاعتراف بتصرفات النظام السابق أو عدم رغبته في البناء على ما سبقه إليه. وكان بالإمكان تبني هذا الرأي لولا أن مضمون الخطاب الذي ألقاه الشرع أمام الرؤساء العرب للمرة الأولى، جاء من حيث المواقف مطابقاً لخطاب بشار الأسد أكثر من تطابقه مع خطاباته هو شخصياً عندما كان يقود "هيئة تحرير الشام"، بل لا يصعب القول إن خطابه الجديد يقطع بشكل نهائي مع مضامين خطاباته السابقة وفحواها المتشدد ضد الأنظمة العربية عموماً.
صحيح أن خطاب الشرع بات يتسم بشكل عام بالبساطة والخلوّ من التعقيد الذي كان الرئيس السابق يتعمده في كثير من الأحيان، وهي نقاط تجعله أقرب إلى الفهم والوضوح في الواقع، لكنها تزيل عنه سمات الجزالة والفخامة التي لا تتعلق بأشخاص الرؤساء بقدر تعلقها بأدوار دولهم.
وقد لا يكون من قبيل المصادفة أن يفتقد إلقاء الشرع خطابه معالم القوة والعنفوان التي كانت من أبرز سمات تسجيلاته الصوتية السابقة، ربما في إشارة خفية تعكس تراجع إحساسه بهذه المعاني بين كونه قائداً عسكرياً لفصيل مقاتل، ورئيساً لدولة تعاني من انقسامات وإشكالات كثيرة على الصعيد الداخلي وتشعر أنها بحاجة إلى غيرها لتكريس نفسها والاستمرار.
وتأكيداً لذلك، فإن ارتجاف صوت الشرع أكثر من مرة وهو يلقي الخطاب كان من المستحيل سماعه في تسجيلاته السابقة التي كان الفنيّون يتعمدون فيها العمل على تضخيم صوت قائدهم بما يمنحه مزيداً من التأثير في المتلقي.
وإلى جانب هذه الشكليات التي عانى بشار الأسد من بعضها في خطبه الأولى إبان تسلمه الرئاسة عام 2000، جاء مضمون الكلمة التي ألقاها الشرع ليؤكد أمرين أساسيين: الأول أن الأدبيات السياسية في سوريا لا تزال هي نفسها التي كان يتبناها النظام السابق، مع ضرورة غض الطرف عن الاختلاف الأيديولوجي بين الرجلين. والآخر أن الشرع تراجع عن كثير من المواقف التي كان يطلقها إبان مرحلته الجهادية، لا سيما منها تلك المتعلقة بالدول الإقليمية والعربية والتي كان يغلب عليها طابع الانتقاد والتهجم.
ومما يشار إليه هو قول الشرع إن "سوريا كانت من أوائل الدول التي دعمت القضايا العربية وبخاصة فلسطين" فهو بالتأكيد يتحدث عن الدعم الذي كان يقوم به النظام السابق، لأن الشرع لم يبلور بعد أي نشاط لدعم قضية عربية. وهذا يخالف ما انطلق منه في خطابه عندما تجاهل عودة الأسد إلى القمة العربية قبله. ولا يمكن أن يكون الشرع قاصداً خلاف ذلك، فهو حتى لو قدم دعماً ما فهذا لا يعطيه الأسبقية التي شدد عليها في كون سوريا من أوائل الدول التي فعلت ذلك.
وكان من المفاجئ عندما سئل عن العلاقة مع مصر أن يجيب أن سوريا ومصر جناحان لطائر واحد. لأن هذا الجواب يحمل في طياته روح الأدبيات التي أفرزتها الوحدة بين البلدين في خمسينات القرن الماضي، وهو كلام يحمل بُعداً قومياً لم يكن الشرع يبوح به من قبل، علماً أن والد الشرع من حَمَلة الفكر القومي الناصري.
وكذلك عندما سئل عن الرد على الانتهاكات التي تقوم بها إسرائيل في سوريا، أشار الشرع إلى أن ما ينبغي أن تفعله سوريا لا يمكن الحديث عنه، في إشارة إلى ضرورة اتسام ذلك بالسرية والغموض. وقد ذكّر ذلك بردود النظام السابق ورجالاته على الاعتداءات الإسرائيلية، إذ قال وزير الخارجية السابق فيصل المقداد إن سوريا قد ترد على قصف القنصلية الإيرانية ولا تعلن عن ذلك، لكن النظام سقط ولم يأت هذا الرد.
ورغم أن فصائل المعارضة السورية كانت تتهم نظام الأسد بـأنه باع الجولان، وتعتبر توقيعه وبعد ذلك التزامه بنود اتفاق فض الاشتباك مع إسرائيل دليلاً على تخاذله مشددة على عدم إطلاقه رصاصة واحدة لتحرير الجولان، فقد شدد الشرع بدوره على تمسكه أيضاً بالاتفاق، بل دعا الدول العربية إلى إقناع تل أبيب بوقف خرقها له، وذلك حتى بعد كلام المسؤولين الإسرائيليين عن خطة لإنشاء منطقة عازلة في الجنوب السوري.
وفي الخلاصة يبدو أن سوريا ستظل محكومة في علاقتها مع إسرائيل والقضية الفلسطينية ببعض المبادئ السياسية والدولية التي أرسى أسسها الرئيس السابق حافظ الأسد، والذي كان يقال طوال عهد نجله بشار أنه لايزال يحكم البلاد من قبره، لكن هذا القبر كان أول مِعلمٍ سوريٍ يجري إحراقه تأكيداً لنهاية عهد سابق، وعلى ما يبدو فإن مواقف صاحب القبر لم تحترق كلها بعد، ولعلها تنتظر تبلور إرادة دولية تكون قادرة على قلب المواقف رأساً على عقب كما قلبت مصير البلاد في 11 يوماً.