أول اعتصام مدني في طرطوس يُفضّ بالقوة: تحرك له ما بعده!
تعرّض أوّل اعتصام مدني~ منذ سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد، دعت إليه فعاليات سياسية ومدنية في مدينة طرطوس، لهجوم من تظاهرة مضادة، أدى إلى فضّه وانسحاب المشاركين بعد تعرضهم لاعتداءات وإهانات. وأثار ذلك تساؤلات كثيرة حول مصير حرية التجمع السياسي في سوريا بعد تغيير النظام، وكذلك حول الأسباب التي دفعت إلى مواجهة الاعتصام بهذه الطريقة في مدينة استطاعت أن تحافظ على أمنها رغم المنعطف الحادّ الذي مرّت به، كما أنها تجاوزت حملة التفتيش الأمنية قبل أسبوعين تقريباً بهدوء تام ومن دون حدوث أي انتهاكات ولو بسيطة، على خلاف ما حدث في مدن أخرى مثل حمص وحماة.
وقد وجَّه الدعوة إلى الاعتصام كلٌّ من "الحركة المدنية الديموقراطية"، و"تجمع سوريا الديموقراطي"، و"الحزب الدستوري السوري" (حدس)، و"جمعية سنديان"، وذلك "رفضاً للممارسات التي تهدد حقوقنا ومستقبل أبنائنا" مثل التسريح التعسفي، والتفريق بين الطلاب والطالبات على مقاعد الدراسة، وانتهاك المواقع الأثرية، والعقوبات الجسدية. وحدّدت الدعوة الموعد الساعة العاشرة مقابل مبنى المحافظة.
وفي الوقت الذي وقف فيه المعتصمون في مكانهم المخصّص، ورفعوا اللافتات، وبدأوا الهتاف للمطالبة بحقوقهم، تسلّل عشرات الأشخاص إلى الرصيف المقابل وبدأوا بإطلاق هتافات استفزازية وشعارات ذات طابع إسلامي، مما أثار الاستغراب، إذ ما الهدف من الرد على مطالب معيشية واجتماعية بشعارات إسلامية مثل "ثورتنا إسلامية" و"قائدنا إلى الأبد سيدنا محمد".
ورغم أن المعتصمين حاولوا جهدهم احتواء الاستفزازات وعدم الرد عليها، وهتفوا أحياناً بشعارات المظاهرة المضادة نفسها، خصوصاً شعار "الإعدام للشبيحة"، فسرعان ما تطورت الأمور إلى ملاسنات قبل أن يهجم شباب المظاهرة على المعتصمين ليمزّقوا اللافتات وليضربوا عدداً منهم، وليلاحقوا ناشطة مدنية ويهدّدوها، مما دفع منظمي الاعتصام إلى إعلان فضّه، لا سيما بعدما تطورت الهتافات إلى شتائم وإهانات شخصية ضد المشاركين.
وكان أكثر المتضررين المصوّر علاء موسى الذي استفزّت الكاميرا بيده المتظاهرين، فهجموا عليه وأخذوا الكاميرا بعدما أشبعوه ضرباً. كذلك سعى المتظاهرون إلى ملاحقة النساء المشاركات في الاعتصام وأجبروهن على حذف المقاطع التي صوّرنها. وكان للناشطة مي يونس نصيب وافر من تهديدات المتظاهرين الذين هددوها بملاحقتها حتى في بيتها، علماً بأنها كانت في دمشق ولم تحضر الاعتصام.
وأكدت مي يونس لـ "النهار" تعرضها للتهديد. وقالت بخصوص ما جرى في الاعتصام إن "فوق العشرين شخصاً من شباب ونساء بقيادة الطبيب محمد زهير خالد يحيى تعدّوا بالضرب والسكاكين على المعتصمين، وطالبوا بإسقاطي واستباحة دمي"، وأضافت يونس: "لم يكتفوا بذلك، بل هجموا على الكازية التي نملكها، ودخلوا مكتب أخي المختار منذر يونس لأنال جزائي، لكنهم لم يفلحوا لأنني كنت في دمشق".
وشدّدت يونس على أن "الأمن كان موجوداً، ولم يأت بحركة"، مؤكدة أنها سترفع دعوى قضائية بحق المعتدين والذين هدّدوها.
وقال المصور علاء موسى لـ "النهار": "كنت أصور وأوثق في مكان الاعتصام، وكانت هناك مجموعة من الشباب الذين ربما كانوا مدفوعين من جهة ما، لكنهم في النهاية يعبرون عن أنفسهم فقط، خرجوا بتظاهرة مضادة من باب الاستفزاز وشعاراتها إسلامية بحتة". وعن الاعتداء عليه أوضح موسى: "تذرع شباب التظاهرة بأنهم سمعوا أحد المعتصمين يوجّه إليهم إهانة، فشنوا هجوماً على المعتصمين. أنا في هذه اللحظة كنت أوثق هذه اللحظة، وقد اعتدوا عليّ لأنني كنت أصور، وحاولوا أخذ الكاميرا منّي". واستدرك موسى بالقول: "للأمانة فإن الشخص الذي ساعدني وأبعد المهاجمين عنّي هو السيد هشام طيارة". وقد وجهت إلى طيارة اتهامات بأنه كان رأس التظاهرة المضادة، لكن تبين لاحقاً أنه جاء كوسيط للتهدئة.
ودعا المصور موسى لاحقاً عبر صفحته في فايسبوك إلى "عدم استخدام ما حدث ليكون سبباً لخلق نزاع أو إشعال نار تضرّنا جميعاً بدءاً من طرطوس، ووصولاً إلى كل جغرافيا هذه البلاد".
وعن سبب هذه المواجهة، قال لـ "النهار" غدير غانم (ناشط سياسي سوري من مدينة طرطوس) إن "خصوصية هذا الاعتصام تكمن في كونه الاعتصام الأول المنظم في الساحل السوري، وقد دعت إليه أربع جهات مدنية وسياسية محلية، مما يفسّر التحشيد الملحوظ لمواجهة المعتصمين السلميين". وأشار إلى أن "قوات الأمن العام لم تتدخل رغم أن جميع الأحداث وقعت أمام مركزين رئيسيين لها، وهما المحافظة ومبنى فرع الحزب القديم الذي تم استخدامه مركزاً للتسويات".
واعتبرت الصحافية رزان عمران، التي كانت تغطي الاعتصام، في حديث إلى "النهار" أن ثمة إيجابيات في ما جرى "إذ مرّت أربعون دقيقة ما صار فيها لا ضرب ولا إهانات بل فقط تشويش. أنا برأيي هذه الأربعون دقيقة صحيّة ومطلوبة، وأنا سعيدة لأنني رأيت مشهداً كهذا، وهو مقبول بعد 14 سنة حرب أهلية". لكن المشكلة كانت في "الاستفزاز من طرف لطرف" بحسب رزان التي أكدت أن "من قام بالضرب هما شخصان فقط، وقد حاول عدد من المتظاهرين إبعاد هذين الشخصين. وأنا لا أريد أن أنسى هذه التفاصيل لأنها جيدة وذات دلالة إيجابية". وأشارت عمران إلى أن "الاعتصام المضادّ كان متوقعاً في ظل الاحتقان السائد منذ سنوات"، ورأت أن دافعه كان "التنفيس من جهة ونشوة التحرير أو سقوط الأسد التي أحدثت رد فعل بعدم الرغبة في العودة إلى أيّ شيء كان في ذلك العهد". والإشكالية التي تحتاج إلى تصويب -برأي عمران- هي أن "البعض يعتقد أن عدم العودة إلى الماضي تستوجب الاستماتة في الدفاع عن النظام الحالي بغضّ النظر عن أحقية المطالب المرفوعة".
وأصدرت الجهات المنظّمة للاعتصام بياناً حول ما جرى فيه، أشارت فيه إلى الانتهاكات التي تعرّض لها المعتصمون، وممّا جاء فيه:"تفاجأنا بقيام مجموعة من المواطنين بالتهجم لفظياً وجسدياً (وكان مع بعضهم سكاكين) على المعتصمين وتمزيق اللافتات وإجبار بعض النساء المعتصمات على حذف الفيديوهات التي توثق انتهاكاتهم، وقاموا بتكسير الكاميرات ومطالبة بعضنا بالهجرة خارج البلد". وشدّد البيان على أنه "من الواضح أن هذا الاعتداء منظّم ومخطّط له من قبل بعض المحرضين"، وهو ما اضطر المعتصمين إلى الانسحاب "حفاظاً على السلم الأهلي، وتجنباً لمزيد من التصعيد". ولفت البيان إلى أن "هذا الحدث جرى بالقرب من موقع الأمن العام الذي رفض التدخل لحماية المواطنين".
وإذ استنكر مصدرو البيان ما حدث بشدّة، أكدوا أنهم بصدد رفع دعوى قضائية ضد المعتدين والمحرضين، وشدّدوا على أنهم مستمرّون في حراكهم السلمي المدني "للوصول إلى سوريا حرة مدنية ديموقراطية".
واعتبر مراقبون أن هذا الاعتداء يشكّل مؤشرًا خطيراً إلى تبنّي أساليب القمع ضد النشاط المدني الديموقراطي السلمي كما كان يفعل النظام السابق. ومع ذلك رأى بعضهم أن مثل هذا الحراك المستجد في الشارع السوري، خصوصاً في مدن الساحل، من شأنه أن يكسر الحواجز بين شرائح السوريين ويدفع المواطنين إلى مسارات ديموقراطية وسليمة للتعبير عن آرائهم ومطالبهم.
نبض