ثمة ما يسترعي الاهتمام في التداعي السريع للأحداث الذي فرضته معركة "ردع العدوان" بقيادة "هيئة تحرير الشام"، بدءاً من انهيار الريف الغربي لحلب، وصولاً إلى تهاوي أحياء في المدينة وسط توقعات أن تخرج حلب كلياً عن سيطرة الجيش السوري خلال وقت قصير.
هذا المتغيّر الجذري في المشهد السوري الذي كان قد استقر على خرائط نفوذ ثابتة منذ عام 2020، لم يحدث مثله حتى في أخطر مراحل الحرب عندما كانت سوريا تعاني عزلة إقليمية ودولية، وكان هناك دعم من جهات كثيرة لقوى المعارضة، وقبل تدخل القوات الروسية، وحتى قبل اتساع تدخل إيران و"حزب الله" في الحرب المستمرة منذ عام 2011.
لم تسقط حلب في تلك المرحلة، رغم أن المدينة كانت محاصرة من كل الجهات، وبشق النفس تمكّن الجيش من فتح طريق خناطر ـ أثريا الطويلة والخطرة أواخر عام 2013. لكن أحياء حلب تساقطت الواحد تلو الآخر في سياق معركة "ردع العدوان"، من دون تسجيل أي اشتباكات عنيفة ضمن المدينة، حتى ان مصادر محلية أكدت عدم سماع أصوات الرصاص إطلاقا.
ساعات من الغموض والترقب سادت مساء الجمعة وسط صمت مطبق من السلطات السورية، بينما اكتفت قيادة الجيش بإصدار بيان مكتوب أعلنت فيه تصديها للهجوم واستعادتها بعض المناطق، طالبة من الأهالي عدم الانجرار وراء ما سمته "التضليل الإعلامي". وقد شكا العديد من الإعلاميين السوريين صعوبة حصولهم على أي معلومة، أو استحالة ذلك، حتى من مسؤولي مدينة حلب الذين كانوا يرفضون التعليق بحسب ما كتب هؤلاء الإعلاميون على مواقع التواصل الاجتماعي.
وبينما لزم الأهالي منازلهم متأثرين بما يشاع من أخبار عن اقتحام المسلحين المدينة، بدا الأمر في ساعات المساء الأولى كأنه تحول إلى حرب فيديوات يجري تصويرها ونشرها لتأكيد سيطرة هذا الطرف أو ذاك على بعض أحياء المدينة. وغاب المراسلون الحربيون الذين يرافقون الجيش عادة، وكذلك مراسلو القنوات السورية، ما دفع بعض النشطاء الحلبيين إلى محاولة مواجهة الآلة الإعلامية للمسلحين، من دون جدوى. وقد ظل كثرٌ من السوريين يراقبون الوضع باحثين عما يساعدهم على إنكار صحة ما يحدث، وهو ما انتهى عملياً عندما بدأت قنوات معارضة بالبث المباشر من بعض الأحياء.
ثمّة من فسّر الأمر بأنه توجه من الجيش السوري لعدم الانجرار إلى حرب شوارع سوف تكون فيها الخسائر كبيرة، فضلاً عن تدمير المدينة التي لم تخرج من نكبتها الأولى بعد. ويرى هؤلاء أن السلطات السورية ستحاول طرق باب الديبلوماسية لتغيير واقع الحال، مستشهدين باتصال وزير الخارجية السوري بنظيره السعودي، وتلقيه اتصالاً من وزير الخارجية الإيراني.
والبعض الآخر اعتبر أن انسحاب الجيش بهذا الانضباط والتنظيم النسبيين دليل على أنه يخفي أمراً ما. ويستند هؤلاء إلى أن الجيش أصدر تعميماً طالب فيه عناصره بعدم نشر أي صور عن أرض المعركة أو التعزيزات. ويرى أصحاب هذا الرأي أن الجيش سيستخدم ورقة خرق المجموعات المسلحة لاتفاق خفض التصعيد من أجل العمل على تغيير الواقع أبعد من حلب نفسها، وصولاً إلى إدلب. ويقولون إن التعزيزات غير المسبوقة التي بلغت مشارف حلب تؤكد صحة ما ذهبوا إليه، فيما تحدث آخرون عن وصول ما يقارب خمسين ألف عسكري.
عملياً، تبدو الطرق شبه مسدودة أمام الجيش السوري، من دون الانخراط في حرب شوارع قاسية، ولا سيما أن المجموعات المسلحة بدأت بتثبيت نقاطها وتعزيز قواتها داخل المدينة. ويبدو صعباً سيناريو الحصار عبر العمل على استعادة السيطرة على الحزام المحيط بالمدينة، ويحتاج إلى وقت طويل ليؤتي ثماره.
هذا المشهد يرجّح أحد احتمالين على المدى المنظور، أن تسقط المدينة بالكامل بيد المسلحين، أو يجري تقاسمها كما حصل بين عامي 2012 و2016.