أرض الصومال... فالق جيوسياسي في الأخدود الأفريقي
علّق الرئيس الأميركي دونالد ترامب على مسألة الاعتراف الإسرائيلي بأرض الصومال دولةً مستقلةً قائلاً: "هل يعرف أحد ما هي أرض الصومال حقاً؟". وتابع في تصريحه لصحيفة "نيويورك بوست" مؤكداً أن الاعتراف باستقلال أرض الصومال يحتاج إلى دراسة. وربما هذه الدراسة مرتبطة بالعرض الذي قدمته أرض الصومال لإنشاء ميناء عسكري في المنطقة. من جهة أخرى، يرى ترامب أن الأولوية للمحادثات المقبلة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ستكون حيال قطاع غزة.
وبالحديث عن قطاع غزة، أفادت "القناة 14" الإسرائيلية إن الاعتراف بجمهورية أرض الصومال جاء مقابل استيعاب سكان غزة، وبأن الاتفاق تضمن "إقامة علاقات ديبلوماسية كاملة وتعاوناً استراتيجياً في مختلف المجالات" مقابل القبول بانتقال سكان غزة.
هذا في ظواهر الأمور، لكنّ في خلفية هذا الاعتراف تغييراً جيوسياسياً ستكون له تداعياته الإقليمية والدولية، إذ يؤكد باحثون في الشأن الأفريقي لـ"النهار" أن "المنطقة باتت مفتوحة على كل السيناريوات وكل التحالفات"، والمسألة تشمل القوى الإقليمية والدولية، إلى جانب اعتبار أرض الصومال "كنزاً استراتيجياً في ضوء موقعها وتحكمها بالمنفذ الجنوبي للبحر الأحمر".
أرض الصومال... جمهورية
استقلت "صومالي لاند" عن بريطانيا عام 1960، واندمجت مع إقليم الصومال في الجنوب الذي كان يخضع للحكم الإيطالي، وشكّلا معاً جمهورية الصومال. لكن هذه الوحدة لم تستقر، إذ كانت البلاد تشهد نزاعات داخلية تشبه الحرب الأهلية، وظلت الأمور تتفاقم، ما جعلها في حالة ضياع سياسي واقتصادي، وصولاً إلى عام 1991، عام انهيار النظام في مقديشو، حينها طالبت أرض الصومال باستقلالها.
ومنذ ذلك الحين تمتعت أرض الصومال باستقلال ذاتي كامل، لها نظامها ومؤسساتها الدستورية ورئيسها، إلى جانب القوات الأمنية، لكنها لم تحظَ يوماً باعتراف دولي باستقلالها، فكانت إسرائيل أول دولة.
قوبل الاعتراف بموجة استنكارات عربية وإسلامية، وفي بيان مشترك واحد وقّعته 21 دولة اعتُبرت الخطوة "سابقة خطيرة وتهديداً للسلم والأمن الدوليين".
وتكمن الخشية هنا من عسكرة إضافية للبحر الأحمر الذي يرزح أصلاً تحت استحقاقات أمنية عدة، منها القراصنة الصوماليون وتشكيل تحالف دولي يضم 47 دولة لتأمين سلامة السفن، ومن ثم تعزيز الوجود العسكري بعد حرب غزة وبدء هجمات الحوثيين وقيام تحالف آخر باسم "حارس الازدهار" لضمان أمن هذا الممر الاستراتيجي.
وفي خضم تشعب الأزمات التي أضيف إليها الاعتراف الإسرائيلي، يقول الباحث والمتخصص في الشؤون الأفريقية الدكتور محمد تورشين، لـ"النهار"، إن "المؤشرات تدل إلى أن التنافس الإقليمي سيكون على أشده بين القوى الإقليمية في ظل تحفظ القوى الدولية"، لكنه يوضح أن ذلك لا يعني أن القوى الدولية ستكون بعيدة عن المشهد، بل ستكون حاضرة ومراقبة ومؤثرة في المشهد الصومالي في أي مرحلة من المراحل، ولا سيما أن أرض الصومال مجاورة لجيبوتي، وهذا يعني أن "القوى التي لديها مصالح في المنطقة ستكون مراقبة للأوضاع وتتابع ما سينتج من الاتفاق بين إسرائيل وأرض الصومال".

عسكرة البحر الأحمر
تصاعد الاضطرابات والتوترات الأمنية في البحر الأحمر دفع السعودية ومصر إلى التوقيع على "بروتوكول الأمن البحري" في أيلول/سبتمبر الماضي، كما نفذت الدولتان، بمشاركة عدد من الدول المشاطئة للبحر الأحمر، مناورات مشتركة.
وقبل هذا، استقبلت جيبوتي عدداً من القواعد البحرية، حتى باتت أشبه بمركز عالمي للقواعد العسكرية الأجنبية، فأرضها تستضيف "معسكر ليمونير" الذي يحتوي على مطار أيضاً، ويشكل القاعدة العسكرية الأميركية الدائمة الوحيدة في أفريقيا والأكبر من نوعها في المنطقة، وتضم أكثر من 4 آلاف عسكري.
كذلك، قرب "ميناء دوراليه المتعدد الأغراض"، أُقيمت أول قاعدة عسكرية صينية خارج أراضيها، تهدف إلى دعم عمليات مكافحة القرصنة وعمليات حفظ السلام والخدمات اللوجستية.
فرنسا بدورها لها قاعدة "هيرون" البحرية وأخرى جوية، كذلك إيطاليا واليابان لديهما قاعدتان بحريتان للدعم اللوجستي ومكافحة القرصنة.
وفي إريتريا والسودان هناك محاولات روسية وتركية لإقامة قواعد بحرية.
وفي هذا السياق يشير تورشين إلى أن الخطوة الإسرائيلية قد تشمل بعض "الترتيبات العسكرية، وبالتالي هذا سيهدد مباشرةً النفوذ الإيراني في اليمن، ما سيدفعها إلى أن تكون حاضرة"، ولا يستبعد الباحث عينه المقيم في فرنسا، "إذا ذهبت طهران إلى المشهد بقوة، أن تقدّم الكثير من الإمكانات العسكرية واللوجستية إلى الصومال التي سوف تقبلها، على اعتبار أن حكومة مقديشو تريد إعادة تكوين الجيش بعد الانهيار الذي شمل المنظومة الأمنية في نهاية القرن الماضي".
مخاوف وتحديات
القرن الأفريقي من المناطق الهشة أمنياً، وقد بات ساحة أوسع للصراع على النفوذ الدولي، خصوصاً مع تصاعد التوتر الجيوسياسي بين الصين والولايات المتحدة التي عدّلت في عقيدتها العسكرية وباتت تنظر إلى المحيطين الهندي والهادئ على أنهما مسرح واحد، ما يفرض حكماً على أفريقيا أن تكون محط تجاذب ونزاع بين القوى الدولية.
وهنا يقول تورشين إن اعتراف إسرائيل بأرض الصومال سيخلق ارتدادات، وإن "المتضرر الأكبر ستكون الصين، لأن لديها مصالح واستثمارات كبيرة في جيبوتي في قطاع الموانئ البحرية"، وبالتالي فإن الانفتاح الإسرائيلي على أرض الصومال سيجعل بعض الدول، وعلى رأسها إثيوبيا، "تستثمر وتكون حاضرة في ميناء بربرة، وهو سينعكس كثيراً على الاستثمارات الصينية في جيبوتي".

فالق جيوسياسي
يبدو أن الفالق الجيولوجي الذي شكّل الأخدود الأفريقي العظيم، والذي يمتد من تركيا وصولاً إلى موزمبيق مروراً بالبحر الأحمر، يقابله آخر جيوسياسي، إذ إن كل الدول الواقعة على طول هذا الأخدود سوف تتأثر مصالحها السياسية والاقتصادية بتطورات القرن الأفريقي التي قد تمتد تبعاتها إلى وسط أفريقيا وغربها.
تمتلك أرض الصومال شاطئاً يطل على خليج عدن بطول يقارب 850 كيلومتراً، ما يجعله "حاكماً للبوابة الجنوبية لمضيق باب المندب"، وبالتالي التحكم في التجارة الدولية، بما فيها تجارة الطاقة القادمة من الخليج العربي.
والغوص أكثر في هذا الساحل يأخذنا إلى الصراع الممتد من شرق المتوسط إلى القرن الأفريقي، وفي هذا السياق يشرح الخبير في أمن الممرات الملاحية والأمن الإقليمي الدكتور رأفت محمود، لـ"النهار"، أن "الخطوة الإسرائيلية تستهدف وضع قدم على الضفة الجنوبية لمضيق باب المندب، ما ينقل الصراع بين إسرائيل والحوثيين الذين يعملون بالوكالة عن إيران، إلى الضفة الأخرى من الممر عند المدخل الجنوبي للممر الملاحي"، ويضيف: "هذا التموضع يوسّع العمق الإسرائيلي من شرق المتوسط إلى القرن الأفريقي، ويحوّل البحر الأحمر من مجرد خط إمداد مكشوف إلى مسرح عمليات يمكن فيه الرد رداً أكثر فاعلية على إيران والحوثيين".
في مسألة أكثر إقليمية، تسعى إثيوبيا للوصول إلى البحر الأحمر، وكانت قد وقّعت اتفاقاً مع أرض الصومال من دون الاعتراف باستقلالها لأسباب تتعلق بإقليم تيغراي الانفصالي وغيره، لتأمين ممر يصلها إلى الخليج، وبالفعل بدأت بأعمال كبيرة تتعلق بالبنى التحتية. وهذا الأمر يلاقي اعتراضاً من كل الدول المطلة على البحر الأحمر، وتتقدم مصر سائر الدول لاعتبارات عدة، منها الصراع بين الدولتين على النفوذ الإقليمي الذي تفاقم بعد بناء أديس أبابا سدَّ النهضة.
والخطوة الإسرائيلية ترى فيها القاهرة استكمالاً لمسار استهداف دورها الإقليمي، بعدما وقفت سداً أمام الخطط الإسرائيلية لتهجير سكان غزة أو محاولات توطينهم في سيناء أو خارجها، إلى جانب تعزيز دورها مع تركيا والسودان وغيرهما، بحسب الدكتور رأفت محمود. وينوّه هنا إلى أن الخطوة الإسرائيلية "تدعم التوجه الإثيوبي باتجاه الوصول إلى البحر، وذلك بهدف المشاركة في ترتيبات الأمن في المدخل الجنوبي للبحر الأحمر وإعادة إحياء أسطولها الحربي، وبالتالي موازنة الدور المصري في البحر الأحمر والتأثير عليه إذا لزم الأمر"، وبالتالي فإن تبعات ذلك سوف تحدّ من المصالح المصرية القومية وتؤثر على دورها الإقليمي.
اتفاق دفاع مشترك
في آب/أغسطس 2024، وقّعت مصر والصومال اتفاقية دفاع مشترك وبروتوكول تعاون عسكري، وتبعها ترقية العلاقات إلى مستوى "الشراكة الاستراتيجية" في مطلع عام 2025. وتشارك مصر في "بعثة دعم الاتحاد الأفريقي واستقراره"، إلى جانب وجود قوات مصرية أخرى تنتشر في الصومال بموجب اتفاقية الدفاع المشترك بين البلدين، تعمل على تدريب القوات المسلحة التابعة لمقديشو وتطويرها.
وفي ظل التطورات الأخيرة، ما مصير هذه الاتفاقية، وهل يمكن تفعيلها؟ عن هذا السؤال يجيب محمود بأن هذا الأمر يخضع لاعتبارات عدة، أولها "وصول الصراع إلى صراع مسلح"، كما أنه يمكن الاستعاضة عن الوجود الميداني على الأرض "بدعم عسكري وفني للقوات المسلحة الصومالية، وهو ما تفعله مصر منذ فترة".
ويرى الباحث عينه المقيم في القاهرة أن المرحلة المقبلة قد تشهد "زيادة في التنسيق الأمني... والتشارك مع القوى المتضررة من الخطوة الإسرائيلية في دعم القدرات الصومالية، ومواجهة خطوة الاعتراف في أروقة الاتحاد الأفريقي والمنظمات الدولية".
نبض