تفاوض لبنان مع إسرائيل بين أصول علم حل النزاعات ومقاربة التوازن الطائفي والمسايرة
شكل تعيين السفير سيمون كرم رئيساً لوفد لبنان الى المفاوضات مع إسرائيل عبر آلية الميكانيزم، موضع نقاش في لبنان حول ضم شخصية مدنية الى اجتماعات هدفها الاشراف على تطبيق اتفاق وقف النار الذي وقع في تشرين الثاني/ نوفمبر 2024 بين لبنان وإسرائيل، والذي كان تفاوض على بنوده رئيس مجلس النواب نبيه بري بالنيابة عن "حزب الله". فالحرب الأخيرة لم تكن الدولة معنية بها لكون قرار شنها بيد "حزب الله" الذي فتح الجبهة وكلف لبنان خسائر فادحة وخرج منها مهزوماً.
تحاول الدولة اللبنانية بدعم وضغط دولي-عربي استعادة زمام المبادرة وفرض سيادتها ومنع استئناف الحرب، ولذلك قررت تعيين كرم للبحث في سبل تطبيق الاتفاق والانتقال الى مرحلة ما بعد تنفيذه بشكل ينهي حالة الحرب بين البلدين. هذا مطلب شرعي ومن صلاحيات رئيس الجمهورية والحكومة فقط، وتم تنسيقه مع الرئيس بري.
تتحدث قيادات "حزب الله" والقوى الحليفة لها عن موضوع المفاوضات وتعيين كرم كأنها تملك الصلاحية، وكأن لبنان يملك خيارات أخرى. طبعاً هي لا تملك أي صلاحية، ولا تزال في موضع اللوم على نتائج الحرب الأخيرة من ويلات على الشعب اللبناني. وفي ضوء قرار الحكومة في آب/أغسطس الماضي رفع الشرعية عن سلاح الحزب، بات الحزب في موقع المتمرد على الدولة والخارج عن قراراتها. وكون الحزب كان من أشرف على عملية التفاوض مع إسرائيل وعلى ترسيم الحدود البحرية وتخلى عن مساحة كبيرة يعتبرها الخبراء لبنانية، فهو آخر من يحق له التحدث عن السقطات وتحريم التفاوض تحت أي ذريعة.
التفاوض مع خصم قوي جداً عسكرياً هي حاجة وشرط لتفادي الدخول في حرب ستؤدي الى دمار كبير والى فقدان مزيد من الأراضي. فإسرائيل، كونها الطرف القوي، هي من تملك سيطرة مطلقة على أجواء لبنان ومياهه، وتحتل أجزاء من أراضيه وتمنع سكان حوالى ثلاثين قرية من العودة الى منازلهم على طول الشريط الحدودي. وكما بات واضحاً، لم ولن ينفع سلاح "حزب الله" أداة ردع ولا قوة لتحرير الأرض وهزيمة إسرائيل. فهو بات سلاحاً غير شرعي وعبئاً على الشعب اللبناني، وخصوصاً بيئة الحزب من أبناء الطائفة الشيعية.
لا يمكن اعتبار سلاح الحزب أداة قوة يستخدمها الوفد اللبناني بالتفاوض لأنه لا يضاهي التفوق العسكري الإسرائيلي. كما أنه السبب الرئيسي للتغاضي الدولي عن استمرار الاعتداءات الإسرائيلية اليومية على لبنان بهدف تدمير مخازن الأسلحة للحزب واغتيال قادته. فاتفاق وقف النار كما قرارا مجلس الأمن1701 و1556، تدعو الى سحب سلاح الحزب من سائر الأراضي اللبنانية وليس جنوب الليطاني فقط. كما أنه لا يمكن الدولة اللبنانية أن تناقض نفسها، بحيث ترفع الشرعية عن سلاح الحزب من جهة، وتفاوض مع إسرائيل وقوى دولية على بقائه أو شروط تسليمه من جهة أخرى.
من المتوقع أن يطرح السفير كرم وجهات نظر لبنان حول سبل حل المشاكل العالقة من منظور سياسي وقانوني، وهو مؤهل جداً لذلك كونه ديبلوماسياً سابقاً ومحامياً، في حين يتناول المفاوض العسكري الجزء الأمني. لتحقيق الأهداف المنشودة وخدمة مصالح لبنان، على المفاوض أن يتحرك في بيئة داخلية داعمة وآمنة. تعيين أعضاء من طوائف ومذاهب أخرى سيحول الوفد اللبناني كتلة من التناقضات تنقل الانقسام الداخلي الى طاولة المفاوضات مما سيؤدي إما الى فشلها وإما الى استغلال الجانب الإسرائيلي واقع غريمه الضعيف. يجب ألا يشعر السفير كرم أن هناك من يتجسّس عليه ويعمل على تقويض عمله من الداخل. فهو في نهاية المطاف سيناقش كل ما يطرح على طاولة المفاوضات مع مرؤوسيه ويأخذ التوجيهات منهم.
وبناء على تجارب مفاوضات لحل نزاعات في أماكن أخرى بالمنطقة وخارجها، لا تكفي المفاوضات المباشرة الرسمية لحل كل المواضيع بسب محدودية عدد وخبرة المفاوضين وخبرتهم في كل المجالات. فعلى الجهات الحكومية أن تشجع كوادر أكاديمية لبنانية بالتنسيق مع جهات ديبلوماسية بالانخراط في محادثات تقنية تعرف بمفاوضات أو اجتماعات المسار الثاني. وبات هذا الأمر شائعاً خلال العقود الأخيرة بحيث تبادر جهات محايدة مثل مراكز دراسات جيوسياسية مدعومة من جهات ديبلوماسية الى دعوة خبراء وأكاديميين من الدول التي بينها النزاع، بالإضافة الى دول مجاورة لها، إلى ندوات مغلقة بعيدة من الاعلام، تطرح فيها أفكار ومقاربات مختلفة لحل النزاع تتناول أبعاداً أمنية واقتصادية وسياسية. وتقوم الجهة المنظّمة أو المجتمعون أنفسهم بنقل الأفكار التي لاقت توافقاً وقبولاً داخل الندوة الى الجهات المعنية التي إما تتبناها وتحيلها على الفريق الرسمي المفاوض لطرحها وتبنيها، وإما تطلب التوسع بدراستها للبناء عليها مستقبلا.
فعلى سبيل المثال، ترافقت المفاوضات بين إيران والولايات المتحدة قبل التوقيع على الاتفاق النووي عام 2015، مع اجتماعات المسار الثاني بين أكاديميين وخبراء من أميركا وإيران ودول عربية وأوروبية، عرض فيها العديد من الأفكار التي شكلت نقطة انطلاق لحل المواضيع العالقة بين الطرفين توصلاً الى لاتفاق النهائي. كما أن الفترة التي سبقت الاتفاقات الابراهيمية حصلت فيها لقاءات المسار الثاني بين أكاديميين وخبراء من الامارات وإسرائيل، نوقشت فيها أفكار عدة سهلت التوصل الى الاتفاق الأخير. ونشر الأكاديمي والسياسي الكندي بيتر جونز، كتاباً عن الموضوع، يدرس اليوم بالجامعات في علم حل النزاعات.
ويمكن أن يطبق الأمر نفسه بين لبنان وإسرائيل، بحيث تنظم اجتماعات المسار الثاني في دول عربية أو غربية وتجمع في غرف مغلقة خبراء وأكاديميين من دول عدة إقليمية وغربية فاعلة بالإضافة الى إسرائيل، لطرح أفكار حلول تتعلق بترسيم الحدود وانهاء أي خلافات، وفتح آفاق للتعاون الاقتصادي بشكل ينهي الحرب وحالة العداء بين البلدين. ويتم نقل هذه الأفكار الى المفاوضين الرسميين كحلول مقبولة من الطرفين ليتم تبنيها وتضمينها في الاتفاقات. فحل النزاعات هو علم قائم في ذاته على الدولة اللبنانية ألا تتعامل معه من منطلق التوازن الطائفي أو حماية مشاعر "حزب الله"، بل من منطلق المصلحة الوطنية فقط.
نبض