مقاتلو سوريا الأجانب: من عقدة مستعصية إلى هندسة متفق عليها
لم يكن ملف "المقاتلين الأجانب" تفصيلاً جانبياً في السنة الأولى بعد سقوط الأسد، بل جزء من الهندسة العميقة للسلطة الجديدة، وعنصر أساسي في تنفيذ الصفقة غير المعلنة التي رافقت الانتقال السياسي. وتتضح ملامح هذه الهندسة ابتداءً من الأسابيع الأولى، حين أصدر الرئيس الانتقالي أحمد الشرع قراراً بترفيع نحو 50 قائداً دفعة واحدة، وتعيين بعض الأجانب على رأس وحدات حساسة كـ"فرقة دمشق" و"الحرس الجمهوري". ورغم أن الخطوة بدت مستفزة للبيئة الداخلية، فإن ردة الفعل الدولية كانت ضعيفة على نحو غير مفهوم، قبل أن تكشف "رويترز" لاحقاً أن واشنطن سلّمت وزير الخارجية أسعد الشيباني قائمة مطالب تضم بين بنودها "عزل القيادات الأجنبية" التي شملها القرار.
كان الانطباع الأول أن واشنطن غير راضية عن الترفيعات، غير أن التطورات اللاحقة نسفت هذا التصور: فبعد أشهر، أعلن المبعوث الأميركي توماس برّاك موافقة بلاده على دمج جميع المقاتلين الأجانب تقريباً داخل وزارة الدفاع، ما يكشف أن قائمة المطالب لم تكن اعتراضاً على الدمج، بل أداة لضبطه وإبقائه ضمن هندسة متفق عليها، لا ضمن خطوات منفردة تقوم بها دمشق. بهذه القراءة، يصبح قرار الترفيع خطوة مبكرة في مسار واحد: تحويل الكتلة الجهادية الموجودة في سوريا إلى قوة مُمؤسسة تعمل داخل بنية الدولة، وتحت رقابة دولية، بدلاً من بقائها قوة منفلتة غير قابلة للسيطرة.

تعايش غريب
تجسّد هذا المسار في إنشاء "الفرقة 84" التي أعادت توزيع نحو 3500 مقاتل أجنبي — من الإيغور وآسيا الوسطى ومصر وتونس وغيرها — ضمن هيكل رسمي خاضع لوزارة الدفاع. ولم يكن اختيار الساحل ميدان نشاط الفرقة قراراً تقنياً، فالموقع يحمل قيمة استراتيجية مرتبطة بإعادة تشكيل النفوذ العسكري والاقتصادي. فقد شهدنا أخيراً بدء مفاوضات أولية بين حكومة دمشق وشركة "شيفرون" الأميركية بشأن مشاريع طاقة محتملة في المنطقة نفسها، ما يبرز تضارباً ظاهرياً يصعب تجاهله: مفاوضات استثمار في قطاع حيوي كالغاز والنفط فوق أرض تضم قاعدة روسية وتنتشر فيها "الفرقة 84" المؤلفة من مقاتلين أجانب سابقين.
ولا يبدو هذا التعايش بين استثمار أميركي محتمل، ونفوذ عسكري روسي، ووحدة ذات خلفية جهادية، نتيجة فراغ أو سوء تقدير، إنما هو جزء من هندسة متدرجة تُدار على مراحل. وبدء "شيفرون" محادثاتها يوحي أن هذا التضارب مأخوذ في الحسبان، وأن ترتيبات معالجته موجودة سلفاً، حتى لو لم تُعلن بعد، كما حدث في محطات سابقة من هذا الملف حين جرى تجاوز ما بدا أول الأمر مستحيلاً أو متناقضاً.
قبل الوصول إلى هذا المستوى من التداخل الاقتصادي – الأمني، جاء قرار مجلس الأمن 2799 ليمنح العملية غطاءً سياسياً وقانونياً. فالقرار رفع اسمَي الشرع وأنس خطاب من قائمة الإرهاب، لكنه رحّب في الوقت ذاته بالتزام الحكومة السورية ملاحقة "الكيانات المصنفة إرهابية" على لوائح "داعش–القاعدة". وبالنظر إلى أن جزءاً من هذه الكيانات أصبح مُدمجاً داخل الجيش ووزارة الدفاع، فإن المقصود ليس مطالبة الدولة بمحاربة وحداتها، بل تثبيت عملية الدمج ضمن إطار رقابي دولي، خصوصاً بعد انضمام سوريا إلى التحالف الدولي ضد الإرهاب، وما يمكن أن يثيره ذلك من حساسيات في نفوس مقاتلين أجانب عمل التحالف ضدهم سنوات عدة. فالرقابة هنا ليست عقوبة، إنما هي آلية لضبط شبكة المقاتلين داخل الحركة العسكرية للدولة، ومنع أي ارتداد غير متوقع في لحظات التحوّل السياسي أو الأمني.
المتحكّم والمتردّد
إقليمياً، لا تتعامل تركيا مع الملف من موقع القلق، بل من موقع الشريك المتحكم. فتركيا الداعم الرئيسي لوزارة الدفاع في سوريا الجديدة، وهي الأشد تأثيراً في هندسة القوة خلال السنة الأولى، لا ترى في وجود مقاتلين أجانب مدموجين داخل الجيش خطراً مباشراً على أمنها، خلافاً لإسرائيل التي تنظر إلى البنية العسكرية السورية الجديدة بوصفها تهديداً محتملاً طويل الأمد، بسبب الخلفية الجهادية لجزء من وحداتها، وتستخدم هذا التوصيف لتبرير سياسة "الضربات الاستباقية" على أطراف دمشق والجولان، كما حدث في بيت جن حين قدّمت عملياتها هناك باعتبارها استهدافاً لـ"بنية إرهابية واسعة" لا يمكن السماح لها بالتمدد نحو الحدود.

أما في الجانب الأميركي، فقد أظهر إقرار "قانون تقييم التهديد الإرهابي من سوريا" (H.R.1327) أن ملف المقاتلين الأجانب ليس محل إجماع في واشنطن. فبينما تتبنى الإدارة نهج الاحتواء وإعادة الهيكلة، يدفع تيار آخر نحو رقابة صارمة، شبيهة بما حدث في ملف "إلغاء قانون قيصر" الذي واجه تردداً مشابهاً داخل المؤسسات الأميركية.
فالقانون الجديد لا يعطل مسار الدمج، لكنه يشير إلى رغبة في إبقاء يد رقابية طويلة المدى على حركة المقاتلين الأجانب، وعلى مسار إعادة تشكيل قطاعي الدفاع والأمن في سوريا، خشية أن يتحول هذا الاحتواء لاحقاً إلى مصدر تهديد خارجي، أو عنصر خلل في ميزان القوى الإقليمي.
الحلقة الصلبة
داخلياً، لا يقتصر دور المقاتلين الأجانب على ضبط المناطق الهشة أو محاربة فلول النظام أو توطيد الحكم الجديد. فالقوة الآتية من بنية "هيئة تحرير الشام" تؤدي دوراً مركزياً في تشكيل الحلقة الصلبة المحيطة بالرئيس الشرع، وفي فرض توازنات داخلية تمنع الفصائل المسلحة من إعادة التشكل خارج سيطرة الدولة.
مع ذلك، يبقى هذا الاندماج محفوفاً بأسئلة لا يمكن تجاهلها: ما مدى تماسك هذه الكتلة في أي لحظة اختبار؟ ما طبيعة شبكاتها العابرة للحدود؟ وكيف سيتفاعل بعض عناصرها مع انضمام دمشق للتحالف الدولي؟ وهل هي كتلة واحدة أم اتجاهات متعددة قد تتباين في الولاء والقرار؟
في المحصلة، تكشف السنة الأولى بعد سقوط النظام أن ملف المقاتلين الأجانب لم يُطوَ، بل أُعيد إنتاجه أداة من أدوات الهندسة السياسية والأمنية والاقتصادية للدولة الجديدة. وهذا ملف تُدار تناقضاته المقصودة من موقع المعرفة لا المفاجأة، وتُستخدم طبقاته المتعددة لضبط السلطة وإعادة توزيع النفوذ داخل سوريا وعلى حدودها. وإذا كانت مفاجآت هذا الملف قد رافقت محطاته السابقة، فمرجحٌ أن ترافق محطاته المقبلة أيضاً، لأن بنيته ليست أمنية فحسب، إنما هي جزء من خريطة إعادة تشكيل البلد في سياق إقليمي ودولي متغيّر.
نبض