إسرائيل وتحدي الجبهات غير المحسومة
طرحت عملية بيت جن تساؤلات عدة عن طبيعة توسيع النفوذ والسيطرة الإسرائيلية في الأراضي الواقعة جنوب سوريا بعد انهيار نظام الرئيس السوري بشار الأسد، حيث تتصرف إسرائيل بحرية أكبر وبجرأة أكثر، ويقوم جيشها بتنفيذ تكتيك اقتحام العمق داخل البلدات، من خلال توغلات محدودة ونصب الحواجز وتفتيش السكان وتنفيذ الاعتقالات، بينما يقصف طيرانها الحربي أهدافاً كثيرة بهدف خلق قوة ردع، ومنع تشكل بيئة أمنية في الجنوب السوري، ومنع ترسخ أي قوة عسكرية أو استخبارية قرب هضبة الجولان المحتلة، وفرض قواعد اشتباك تجعل المنطقة رخوة لا تشكل أي تهديد مستقبلي.
فشل هذه العملية كان مفاجئاً للجيش والمستوى الأمني الإسرائيلي. فقد تناقلت وسائل الإعلام الإسرائيلية إمكان تسرب معلومات عن توغل الجيش في بيت جن إلى المسلحين بطريقة أو بأخرى، علماً أن الإعلام نفسه تحدث في البداية عن فشل استخباري على الأرض، خصوصاً في الحصول على معلومات من البلدة، فعطلت المقاومة غير المتوقعة العملية العسكرية وكشفت هشاشة الاستراتيجية الأمنية في المنطقة.
وخلف الفشل العملياتي في جنوب سوريا، ربما تختبئ حقيقة أشد تعقيداً، وتطرح تساؤلات أعمق حول الديناميكية الأميركية التي تمكنت من خلال فرض اتفاقات "وقف نار" على جبهات غزة ولبنان وإيران المشتعلة، من تفكيك وحدة الجبهات السبع أو ربما إسكاتها موقتاً. فخلف الابتسامات المتوترة والمصافحات القوية، لا اتفاق نهائياً بل إطار مبادئ "فضفاض وهش"، فُرض على الأطراف بضغط أميركي غير مسبوق، ما كان الهدف منه حلّ المشاكلات كلها، بل خلق ديناميكية تُنهي الحرب، والقصة لا تكمن في تفاصيلها، بل في غياب هذه التفاصيل.
انعدام الاستقرار الأمني
يستمر القتال على الجبهات الرئيسية لكن بدرجات متفاوتة من الشدة. فالحرب لم تنته لكن وتيرتها اختلفت، والجبهات لم تحسم، وهذا خلق حالاً مستمرة من عدم الاستقرار الأمني، وصفها الجنرال احتياط أليعازر ميروم في صحيفة "إسرائيل اليوم" بـ"أنها لا تبشر بالخير لإسرائيل، وتتطلب عملاً عسكرياً-سياسياً مشتركاً وتنسيقاً كاملاً مع الولايات المتحدة، لإحلال الهدوء واستعادة الاستقرار في المنطقة".
وبحسب ميروم، تعيد "حماس" بناء قدراتها العسكرية والحكومية في غزة، ويعزز "حزب الله" قوته في لبنان، ويستغل الإيرانيون كل يوم يمر لإعادة تأهيل أنفسهم، "لذلك متى ستضطر إسرائيل إلى التحرك بقوة وتدمير البنية التحتية التي تُبنى باستمرار؟".

الجبهة اللبنانية
أوضح ميروم أن هذه الجبهة تشهد إعادة "حزب الله" تأهيل قوته، ولمنع تعرض المستوطنات الشمالية التي عاد معظم سكانها للخطر، يتطلب الأمر عملاً عسكرياً يومياً لإحباط أي محاولة من "حزب الله" لإعادة تنظيم صفوفه قرب الحدود. وبحسبه، انطوى الاتفاق مع الحكومة اللبنانية بوساطة آموس هوكشتاين، على نقطتي ضعف بارزتين: "الأولى، الاعتماد على الحكومة اللبنانية الضعيفة؛ والثانية، الاعتماد على الجيش اللبناني لتنفيذ الاتفاق ونزع سلاح ’حزب الله‘".
وتابع: "على الجيش الإسرائيلي تنفيذ غارات جوية بشكل شبه يومي، والبقاء في المناطق الخاضعة لسيطرته من الأراضي اللبنانية"، وقد وجّه إغتيال رئيس أركان "حزب الله" هيثم طبطبائي رسالةً إلى الحكومة اللبنانية مفادها ضرورة اتخاذ إجراءات حازمة ضدّ التنظيم للحفاظ على الاتفاق، "فلا حلول في الأفق، ويبدو أن الجيش الإسرائيلي مستمر في عملياته".
الجبهة السورية
ولفت ميروم إلى أنه يُطلب من الجيش الإسرائيلي التصدي لمحاولات التنظيمات تحدي إسرائيل على طول خط التماس مع سوريا، وقال: "وضعنا في هذه الجبهة أفضل، نظراً الى ظروف الساحة التي تضم عدداً قليلاً جداً من المستوطنات، وهذا يُسهّل علينا العمل، كما يبدو أن الحكومة السورية مهتمة بالتوصل إلى اتفاق لاستقرار الوضع، رغم مشكلاتها الداخلية".
ويضيف: "في نهاية المطاف، ستصبح سوريا دولة أصغر حجماً، مع مناطق نفوذ تركية في الشمال ومناطق نفوذ إسرائيلية في الجنوب، وسيتطلب الأمر من حين إلى آخر تنفيذ عمليات توغل للقضاء على الإرهاب المتنامي".
وختم في المحور السوري بالقول: "في هذه المرحلة لن تنسحب قوات الجيش الإسرائيلي إلى خط الحدود الدولية، وستبقى مدة من الزمن".

جبهة غزة
ورأى أن الوضع على هذه الجبهة "معقد وهش، متفجر وخطير، وعلى وشك الانهيار". فالجيش الإسرائيلي يسيطر على نصف القطاع، فيما تسيطر "حماس" على النصف الآخر، ولا تقدم يذكر في محادثات المرحلة الثانية، وربما نبقى على هذا الوضع وقتاً".
وبحسبه، "حماس" تُعيد بناء قدراتها العسكرية والحكومية، ويتزايد التحدي العسكري الذي تواجهه إسرائيل يومياً، ويبقى السؤال: "متى ستحتاج إسرائيل إلى التدخل بقوة في الأراضي التي تسيطر عليها ’حماس‘ لتدمير بنيتها التحتية؟".
الضفة الغربية
وبعد عمليات واسعة النطاق في مخيمات اللاجئين بجنين وطولكرم ونابلس ومدن أخرى في الضفة الغربية، ألحقت أضراراً جسيمة بالبنية التحتية للمقاومة، لا يُعزى التراجع الرئيسي في نطاق العمليات إلى عدم رغبة الفلسطينيين في القتال، بل إلى عمل الجيش الإسرائيلي ليل نهار لمنع تنفيذ مخططاتهم، وفقاً لتقديرات ميروم، متابعاً: "يتعامل الجيش والشاباك مع استمرار العمليات ’العفوية‘، فالهجمات التي يشنها مسلحون منفردون يصعب إحباطها".

ويتوقع مسؤول أمني اسرائيلي أن ينفجر في الضفة سيناريو مشابه لما حدث في 7 أكتوبر، ما يشكل حدثاً قد يغير المعادلة. فالضفة الغربية تشكل الساحة الأكثر إرباكاً لأجهزة الأمن الإسرائيلي، "فهناك أسلحة خطرة تتدفق إلى الداخل، والتنظيمات تكتسب خبرة وثقة".
الجبهة الإيرانية
ولفت إلى أن الهدوء على هذه الجبهة محض خيال، "فالإيرانيون يستغلون كل يوم لإعادة بناء منظومتهم المضادة للطائرات وإنتاج مزيد من الصواريخ الباليستية التي تهدد إسرائيل، كما أن إيران لم تتخلَّ عن مشروعها النووي، وستعيد بناءه بلا شك، وعلينا أن ندرك أن الإيرانيين يعملون برؤية بعيدة النظر، ويتطلعون إلى عقود قادمة، وأن نكون متيقظين للتهديد المتنامي، فالكلمة الأخيرة لم تُقل بعد".

ويعتقد المحلل العسكري في I24 News يوسي يهوشواع أن الصراع بين إيران وإسرائيل تحول إلى روتين من "الجولات القـتالية"، فيما أصبحت المواجهة حتمية مع إيران التي تعمل بقوة على إعادة بناء قدراتها الصاروخية، "ولا يمكن لإسرائيل الاعتماد فقط على الدفاع أي الصواريخ الاعتراضية إلى الأبد، بسبب محدودية المخزون، لذلك تخطط إسرائيل لعملية إضعاف استباقية لضرب القدرات الإيرانية، والجيش يتدرب حالياً على تنفيذ هذه العملية، بينما تدرس إيران الضربات الإسرائيلية السابقة لتحسين دفاعاتها، وتقوم بتكييف خططها وفقاً لذلك".
الخلاصة برأي المحللين الإسرائيلين هي أن الولايات المتحدة تنظر إلى الشرق الأوسط وحدة واحدة، هدفها الرئيسي هو توسيع الاتفاقات الإبراهيمبة وضم السعودية إليها. في المقابل، تسير إسرائيل على حبل مشدود، لذلك يتوجب الحفاظ على التحالف مع الولايات المتحدة لأهميته البالغة في الحفاظ على أمنها ووجودها.
نبض