كرة المغرب... حين يتحوّل الحلم إلى واقع "مشروع أُمّة"

مخطئ من يعتقد أنّ تتويج منتخب المغرب بلقب كأس العالم للشباب تحت 20 سنة محض مصادفة، فوصول "أشبال الأطلس" إلى المجد العالمي لا يعدو كونه نوبة حماسة عابرة، بل يأتي ضمن مسار طويل بدأ منذ أن قرّر المعنيون في المملكة بالملف الرياضي عموماً وكرة القدم خصوصاً، كتابة الفصل الخاص في تاريخ كرة القدم الحديثة.
كسر "أسود الأطلس" الحواجز في مونديال قطر، وتخطى جدار الأدوار الثانوية، ليعيد وليد الركراكي ورجاله تعريف حدود الممكن، إذ دخلت البلاد مرحلة جديدة من الوعي الرياضي، بحيث تحوّلت كرة القدم إلى مشروع وطني متكامل، وإلى مختبر يعكس كيف يمكن للإرادة والتنظيم أن يغيّرا وجه مجتمع بأكمله.
ذلك الجيل الذي تحدّى العمالقة في ملاعبهم، وجعل العالم ينحني احتراماً لروح الانتصار المغربية، هو نتاج هندسة فكرية واجتماعية بدأت من المعمورة، حيث صارت أكاديمية "محمد السادس" رمزاً لنهضة منهجية. هناك، لا يُعلَّم اللاعب كيف يركل الكرة فحسب، بل كيف يفكر، وكيف يُدرك أنّ الفوز ثقافة تُزرع في الذهن قبل أن تُترجم على الأرض.
سلوك جماعي متطوّر
منذ تلك اللحظة، تحوّلت ثقافة الفوز إلى سلوك جماعي يعبر من الفئات السنية إلى المنتخب الأول، ومنه إلى الأندية، وحتى المنتخبات النسائية والصالات والشاطئية. ففي سنوات قليلة فقط، تكرّست هيمنة مغربية غير مسبوقة على المستويين القاري والعالمي على مستوى المنتخبات كافة والأندية.
هذا التراكم لم يكن عشوائياً، بل نتيجة منظومة تخطيط مستلهمة من التجربة الألمانية بعد نكسة "يورو 2000"، حين أدرك الألمان أنّ البناء يبدأ من التكوين. المغرب استلهم الجوهر لا الشكل، فحوّل الدروس إلى مشروع وطني. فقد وُضعت الأكاديميات في قلب المدن والأرياف، وتمت إعادة هيكلة المدربين محلياً بالتعاون مع خبراء، لتتشكل منظومة تكوين متكاملة تمزج بين الانضباط الأوروبي والموهبة الأفريقية، فضلاً عن تطوير البنى التحتية لتستضيف البلاد بطولات عدة وتصبح ملاذاً لمنتخبات لا تمتلك ملاعب مصنفة، وصولاً إلى نيل شرف تنظيم مونديال 2030 بالشراكة مع إسبانيا والبرتغال المحاذيتين.
الخبز اليومي!
ولأنّ المشاريع الكبرى لا تعيش إلا إذا مسّت روح الناس، انعكست هذه النهضة الكروية على المزاج الاجتماعي نفسه. فالمغاربة يعتبرون كرة القدم "خبزهم اليومي"، ففي بلدٍ لا تزال فيه نسب البطالة والفقر مرتفعة، صارت كرة القدم بوابة أمل وحلم وكرامة.
فكرة التمكين الاجتماعي عبر الرياضة، التي لطالما بدت شعاراً في بلدان أخرى، أصبحت واقعاً في المغرب. فقد استطاعت اللعبة أن توحّد ما فرّقته السياسة، وأن تمنح الشباب سبباً للبقاء والإيمان بقدرتهم على التغيير. فحين يحتفل المغاربة في الشوارع بألوان المنتخب أو بفوز الوداد أو الرجاء أو بركان، فهم لا يحتفلون بنقاط في جدول، بل بانتصار على الإحباط، وعلى فكرة أنّ النجاح حكر على غيرهم.
منذ قطر حتى اليوم، وربما في كأس أفريقيا المقبلة في ملاعب المغرب، يبدو أنّ المشروع يسير بخطى ثابتة نحو بناء ثقافة وطنية جديدة، قوامها الانضباط والتنظيم والإيمان بالذات. وقد عبّر وليد الركراكي، الذي قاد المنتخب الأول إلى المربع الذهبي المونديالي، عن ذلك بقوله: "لم نعد نذهب إلى البطولات لنُشارك، بل لنفوز. هذه عقلية جديدة، عقلية شعب تعلّم أنّ المستحيل مجرد رأي".
أضحى المغرب اليوم نموذجاً لدولة قرّرت أن تجعل من كرة القدم مختبراً للتغيير الاجتماعي والسياسي. فكما أعادت ألمانيا تعريف نفسها بعد 2000 من خلال إصلاح كروي شامل، يعيد المغرب اليوم تعريف ذاته عبر مشروع رياضي يحمل في جوهره رؤية حضارية، يقودها "باني نهضة الكرة المغربية" فوزي لقجع، رؤية تقول إنّ الإصلاح لا يكون من القمة، بل من الميدان، ولتصبح كرة القدم في المغرب الميدان، مشروع أمةٍ تعرف أنّ طريقها إلى المستقبل يبدأ من الإيمان بذاتها.