حين غابت الرّوح... هل تضيع البرازيل في زمن أنشيلوتي؟

لم يشكل إقصاء البرازيل من كأس العالم للشباب تحت 20 سنة التي تستضيفها تشيلي حالياُ، مجرّد خسارة رياضية، بل لحظة كسوف في سماء أمةٍ بُنيت أمجادها على شمس كرة القدم.
لأول مرة في التاريخ، يغادر "السامبا الصغير" من الدور الأول، بنقطة يتيمة وثلاث مباريات بلا نكهة ولا فرح. حيث انكسر الحلم مبكراً في سانتياغو، ومعه تعمّقت الأزمةٌ فلم تعد مقتصرة على النتائج، بل امتدت إلى أزمة هويةٍ تائهة بين الماضي الذهبي والحاضر البارد.
يقول المدرب رامون مينيزيس "كلنا حزينون. لم يكن لدينا وقت كافٍ للتحضير، لكن كل خسارة تترك أثراً لا يُنسى"، كلمات المدرب جاءت بنبرة صادقة، لكنها لم تُخفِ جرحاً أكبر من مباراةٍ أو بطولة. فما حدث في تشيلي لم يكن حادثاً عرضياًً، بل عرضاً لمرضٍ مزمن أصاب كرة القدم البرازيلية منذ سنوات، حين بدأت تفقد روحها تحت ضغط الواقعية الأوروبية والتجارية الحديثة.
لقاء بين العقل والنار
تولّي كارلو أنشيلوتي تدريب المنتخب الأول بدا للوهلة الأولى كخطوة نحو "العصرنة"، لكن في بلدٍ يؤمن بأن الكرة فنٌّ قبل أن تكون علماً، بدا التعيين كمن يُدخل النار في ثوب من الثلج.
فأنشيلوتي الشخص الهادئ، الانضباطي، الكلاسيكي، يقف على الطرف النقيض من روح البرازيل الراقصة التي أسرت العالم، إذ يفضّل الصبر على الجرأة، والنظام على الفوضى الخلّاقة. ومع ذلك، فالبرازيل لم تكن بحاجة إلى مزيدٍ من النظام، بل إلى إعادة اكتشاف فوضاها الجميلة.
وتمتد الخشية الكبرى الآن بوصول بصمته إلى الفئات العمرية، فيُعاد تشكيل كرة السامبا على النمط الإيطالي البارد، فتفقد الأجيال الصاعدة آخر ما تبقّى من "الجنون المقدّس" الذي جعل البرازيل مرادفاً للجمال.
من السحر إلى الصمت
الصحافة البرازيلية لم تُخفِ غضبها، وصفت "UOL" الإقصاء بأنه "أكثر المشاهد حزناً في تاريخ البرازيل الشابّة"، أما "O Globo" فقالت "كرة توقفت عن الرقص، والروح لم تعد حاضرة في العيون". وذهبت "Folha de S. Paulo" أبعد من ذلك حين عنونت "البرازيل فقدت خيالها حين قررت أن تُشبه أوروبا".
وأردفت "اللاعب البرازيلي لم يعد يحلم بأن يكون رونالدينيو، بل نسخة مطابقة لأي لاعب من أكاديمية إنكليزية"، وتابعت "كان ذلك تشخيصاً صادماً، لكنه واقعي، فالجيل الحالي تربّى على مقاعد الأكاديميات لا على رمال الشواطئ، وعلى تعليمات الفيديو لا على إلهام الشوارع، حتى الأحياء الفقيرة التي شكلت رحم المعجزات، صارت صامتة بعدما استبدلتها الشركات بمراكز تدريب باهظة الثمن".
سقوط جيل أم سقوط منظومة؟
ربما لم يكن فشل البرازيل في تشيلي سوى القشة التي كشفت هشاشة البنيان، فالمشكلة لم تعد في لاعبٍ أو مدربٍ أو مباراة، بل في منظومةٍ نسيت كيف تُنتج الموهبة، جيلٌ بلا جذور، يملك المهارة ولا يملك الروح، يلعب بانضباطٍ عظيم لكن من دون خيال، تماما كما لو أن السامبا فقدت إيقاعها.
وكتب الأسطورة زيكو مؤخراً: "حين تخسر البرازيل، يجب ألا تبكي فقط، بل أن تتذكّر من تكون"، وأردف "الهزيمة ليست النهاية، إنها بداية مراجعة مؤلمة وضرورية، فحين تحاول البرازيل أن تكون مثل الآخرين، تخسر تفوّقها، وحين تعود إلى نفسها، تُعيد للكرة سحرها، وللملعب رقصته القديمة".
البرازيل، مهما تعثّرت، ما زالت قادرة على النهوض، شرط أن تعود لمبادئها وتاريخ دوّنه بيليه وجيرزينيو وغارينشا وفافا وكارلوس ألبيرتو وزيكو وسوكراتيس وروماريو وبيبيتو والظاهرة رونالدو وكافو وروناليدينو وكاكا وغيرهم، وحين تعود "الساميا" للرقص سيعود معها السحر... لأن السامبا، مهما صمتت، لا تموت.