كرة القدم أمام امتحان الإنسانية… دعوات رياضية دولية لتعليق مشاركة إسرائيل

حرّكت مأساة غزة الشعوب، سواء في الشرق أم في الغرب، وجماهير كرة القدم لم تقف ساكتة. أطلقت العنان لهتافاتها، وفتحت مدرّجاتها للنطق بلغة الإنسانية؛ وبعد عامين على حرب الإبادة والتهجير، علت الأصوات ضد إسرائيل.
مع استمرار المجازر في القطاع الفلسطيني المنكوب، تصاعدت الدعوات الدولية داخل الأوساط الرياضية لطرد إسرائيل من المنظمات الرياضية الدولية، وفي مقدّمها الاتحادين الدولي لكرة القدم الـ "فيفا" والأوروبي الـ "يويفا". القضية لم تعد مجرّد مسألة رياضية، بل أصبحت اختباراً حقيقياً للقيم والقانون الدولي، حيث يُفترض بالرياضة أن تكون جسراً للسلام وميداناً لإعلاء القيم الإنسانية، لا أداة لتبرير الانتهاكات.
مماطلة الـ "فيفا"
قدّم الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم مقترحاً رسمياً لمؤتمر الـ "فيفا" في أيار/مايو 2024، طالب فيه بطرد إسرائيل بسبب انتهاكاتها لحقوق الرياضة الفلسطينية، بما في ذلك مشاركة أندية إسرائيلية مقامة على أراضٍ فلسطينية محتلّة.
ورغم أنّ الـ "فيفا" كان بإمكانه اتخاذ قرار سريع، فقد رفض التصويت الفوريّ بحجة الحاجة إلى تقييم قانونيّ مستقلّ، ما أطلق سلسلة من التأجيلات المتكرّرة حتى تشرين الأول/أكتوبر 2024. هذه المماطلة، بحسب خبراء، لم تكن مجرّد بروتوكول، بل محاولة واضحة لامتصاص غضب الرأي العام العالمي، ولتجنب مواجهة مباشرة مع أزمة إنسانية صارخة.
وفق الأسرة الرياضية الفلسطينية، فقدت الرياضة أكثر من 830 شهيداً خلال العدوان الحالي، بينهم 370 من عائلة كرة القدم من لاعبين ومدربين وإداريين وحكام، فضلاً عن مسح كل المنشآت الرياضية، بما فيها ملعبا فلسطين واليرموك، أي أنّ قوات الاحتلال قتلت من الرياضيين الفلسطينيين ما يعادل تشكيلة 72 فريق كرة قدم.
القانون الدولي والازدواجية
يمنح القانون الدولي واللوائح الرياضية الـ "فيفا" الحق الكامل في تعليق العضوية أو استبعاد الاتحادات التي ترتكب دولها خروقات جسيمة، كما حصل مع جنوب أفريقيا في زمن الفصل العنصري، ومع روسيا بعد بدء عمليتها العسكرية في أوكرانيا.
لكن ازدواجية المعايير تجلّت مع القضية الفلسطينية، حيث استمرار مشاركة المنتخب الإسرائيلي وأنديته يطرح سؤالاً محورياً: هل الرياضة حقاً محايدة، أم أنها مجرّد أداة سياسية تحمي المصالح وتحجب الجرائم؟
برزت أصوات صريحة تنتقد الـ "فيفا" والـ "يويفا"، طالبت بوقف مشاركة إسرائيل حتى انتهاء الانتهاكات، فدعا أسطورة مانشستر يونايتد وفرنسا إريك كانتونا، في فعالية "معاً من أجل فلسطين" في لندن، إلى تعليق مشاركة المنتخب الإسرائيلي والأندية الإسرائيلية، مطالباً الأندية واللاعبين بعدم مواجهة الفرق الإسرائيلية حتى تتحرّك المؤسسات الرسمية. كانتونا ربط المقاطعة في الرياضة بأخلاقيات اللعب النزيه والعدالة، مشيراً إلى أنّ المقاطعة الرياضية كانت حاسمة في إسقاط نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.
وأعرب المدرب الإسباني بيب غوارديولا عن تضامنه مع غزة، مؤكداً أنّ الرياضة بلا قيم إنسانية لا معنى لها، وأنّ مبادئ العدالة والمساواة يجب أن تكون في قلب أيّ منافسة رياضية.
جماهير ومنظمات أوروبية نظّمت حملات تحت شعار "Game Over Israel"، حيث رفعوا لافتات ضخمة في ملاعب كبرى، مؤكّدين أنّ الرياضة يجب أن تكون قوة للسلام، وليس غطاءً لجرائم الحرب.
وقد أظهرت منصّات التواصل الاجتماعي صور جماهير تنتصر لغزة وفلسطين ولبنان خلال مباريات ضد فرق إسرائيلية، كما تعطّل سباق "فويلتا" الإسباني للدراجات احتجاجاً على مشاركة فريق إسرائيلي، فيما هددت إسبانيا بالانسحاب من كأس العالم المقبلة إذا تأهلت إسرائيل، كموقف رياضي نصرة للقضية الإنسانية.
الـ "فيفا" بين الرياضة والسياسة
يزداد الحديث عن انغماس الـ "فيفا" في السياسة الأميركية، خصوصاً مع إقامة مكتب لها في برج ترامب، في خطوة فُسّرت على أنها محاولة للتقرّب من واشنطن وتأمين دعم سياسي ومالي. هذا يسلّط الضوء على العلاقات المتشابكة بين كرة القدم والديبلوماسية الدولية، ويؤكّد أنّ مواقف الـ "فيفا" تجاه إسرائيل لا يمكن فهمها بمعزل عن المصالح الاستراتيجية.
تأتي هذه المطالبات في وقت تتزايد فيه الاعترافات بدولة فلسطين، بما فيها دول أوروبية كبرى مثل بريطانيا، صاحبة وعد بلفور الشهير. ويعكس الاعتراف الرمزي تحوّل المزاج الغربي تجاه القضية الفلسطينية، ويزيد الضغوط على المؤسسات الرياضية الدولية للالتزام بالقيم الإنسانية ومحاسبة أي جهة تنتهك حقوق الشعب الفلسطيني.
مفترق حاسم!
اليوم، كرة القدم تقف أمام مفترق حاسم: فهل تعلن الـ "فيفا" والـ "يويفا" موقفاً شجاعاً يعكس القيم الإنسانية والقانونية، ويضع حداً للانتهاكات، أم تستمر في سياسة المماطلة؟ فَكُرة القدم، اليوم، ليست مجرّد لعبة؛ إنها اختبار للضمير العالمي.