السعودية والولايات المتحدة تغيّران موازين الكرة العالمية؟

تحوّلات جذرية عرفتها كرة القدم العالمية في السنوات الأخيرة، وخصوصاً على صعيد مراكز القوة. فتحت تأثير المال والنفوذ اقتحم الدوريان السعودي والأميركي المشهد، وباتا منافسين أساسيين على جذب النجوم، عقب عقود من احتكار الأوروبيين وأميركا الجنوبية. هذه الظاهرة لم تعد حدثاً عابراً، بل مؤشراً على إعادة توزيع الثقل الرياضي والاقتصادي في اللعبة الأكثر شعبية.
الملاعب السعودية باتت "قبلة" النجوم أيضاً بعدما كان الذهاب إلى "الجنة الأوروبية" حلم أي موهبة. تعاقدات تاريخية في مقدمها أسطورة البرتغال كريستيانو رونالدو، ثم كرت السبحة تدريجاً وباتت أسماء كثيرة تزيّن الملاعب العربية والآسيوية من البوابة السعودية، بعقود مالية تجاوزت قدرات معظم الأندية الأوروبية. وبالتالي، تحوّل استقطاب لاعبين بحجم كريستيانو رونالدو وكريم بنزيما وصولاً إلى داروين نونيز، إلى استراتيجية مدروسة تهدف إلى تعزيز قوة الدوري محلياً وعالمياً.
وحذر صندوق ديلويت الأوروبيين من منافسة شرسة في سوق الانتقالات والجاذبية التسويقية رغم التأكيد على أنّ أوروبا لا تزال تحقق أرقاماً قياسية في الإيرادات.
لا يعد التمويل السعودي القوي، عبر صندوق الاستثمارات العامة، مجرّد استثمار رياضي، بل هو جزء من رؤية 2030 لتنويع الاقتصاد وجذب السياحة، كما تشير الباحثة كريستين سميث من معهد دول الخليج العربية في واشنطن، قائلة لصحيفة "واشنطن بوست": "التنويع الاقتصادي وتعزيز النفوذ السياسي هدفان رئيسيان، لكن السعودية تحتاج الاندماج بالكامل في الاقتصاد والثقافة العالميين".
وترى تقارير صحافية متابعة أنّ الاستثمارات الرياضية السعودية تحمل بعداً جيوسياسياً واضحاً لوضع المملكة في موقع أكثر تقدماً في نظام عالمي متغير، إذ تكشف صحيفة "الغارديان" في متن تقرير لها أنّ السعودية أبرمت أكثر من 900 صفقة رعاية واتفاقات مع اتحادات رياضية في إطار التحضير لكأس العالم 2034.
أما في "بلاد العم سام"، فحقق الدوري الأميركي للمحترفين طفرة ملحوظة بفضل اتفاقات متعددة للبث الرقمي، والتعاقد مع نجوم من الصف الأول في مقدمهم الأرجنتيني ليونيل ميسي، وأخيراً الألماني توماس مولر، مما رفع الإيرادات ووسّع قاعدة المشاهدين حول العالم، إلى جانب زيادة الحضور الجماهيري.
ووفق رابطة الدوري، ارتفعت العوائد التجارية بنسبة 40% منذ وصول النجم الأرجنتيني، مما يؤكد التأثير الفوري لصفقات النخبة على اقتصاديات اللعبة.
ترتبط هذه الطفرة في الإنفاق والاستقطاب على نحو وثيق، باستراتيجيات أوسع لتطوير البنية التحتية، وزيادة جاذبية المنافسات، وجذب حقوق البث العالمية. ويشير خبراء الاقتصاد الرياضي إلى أنّ هذا التوجه قد يخلق نموذجاً جديداً في كرة القدم، يعتمد على دمج العوائد التجارية مع القيم الفنية، بعيداً من المركزية الأوروبية التقليدية.
كما أنّ الدوريات الصاعدة تستفيد من قوة منصات التواصل الاجتماعي في الترويج لمنتجاتها، حيث يملك رونالدو وميسي مجتمعين أكثر من مليار متابع عبر المنصات، وهو ما يضاعف الأثر التسويقي للبطولات التي يلعبان فيها. وتؤكد تقارير أنّ القيمة السوقية للأندية التي تضم هؤلاء النجوم ارتفعت بنسبة تتجاوز 25% خلال موسم واحد فقط.
ساعدت هذه السياسات الرياضية الجديدة، على إيجاد أسواق جديدة للعبة، إذ إنّ الصعود السريع للدوريين السعودي والأميركي خلق مستوى جديداً من المنافسة في سوق المواهب، إذ بات اللاعبون الكبار أمام خيارات أكثر تنوّعاً من حيث الرواتب، نمط الحياة، وضمانات ما بعد الاعتزال. هذا التنوّع انعكس على الأندية الأوروبية، التي اضطرت إلى إعادة التفكير باستراتيجيات الاحتفاظ بنجومها، إما عبر تحسين العقود وإما بتقديم حوافز إضافية.
وفي سياق متصل، فإنّ الزيادة في الإنفاق على كرة القدم في هذه الأسواق ساهمت في تنشيط قطاعات أخرى مثل السياحة، عبر استضافة المباريات والبطولات الكبيرة الي أصبحت وسيلة فعّالة لجذب الجماهير من الخارج.
بينما تبقى أوروبا قلب الاقتصاد الكروي، فإنّ صعود الدوري السعودي وكذلك الأميركي يعيد رسم الخريطة. لم يعد المال والموهبة محصورين بالقارة العجوز، بل أصبحا جزءاً من لعبة جيوسياسية واقتصادية عابرة للقارات، وتصبح المستطيلات الخضراء منصات نفوذ بقدر ما هي ساحات منافسة.