كان يا ما كان... بيت في جنوبي لبنان

آراء 07-01-2025 | 10:25

كان يا ما كان... بيت في جنوبي لبنان

الأكيد أن هذا المنزل لم يعمَّر بين ليلة وضحاها بل بجهد سنوات طويلة، والأكثر تأكيداً من ذلك أنه تحوّل هباءً منثوراً في ثوانٍ معدودة. 
كان يا ما كان... بيت في جنوبي لبنان
بلدة السلطانية (فاطمة عباني)
Smaller Bigger

الأكيد أن هذا المنزل لم يُعمَّر بين ليلة وضحاها بل بجهد سنواتٍ طويلة، والأكثر تأكيداً من ذلك أنه تحوّل هباءً منثوراً في ثوانٍ معدودة. 

في يوم ما، في دقيقة ما.. أصبح هذا المنزل في قرية السلطانية، في جنوبي لبنان، ذاك البعيد المعتكف بين أشجار البلوط والتين وتعريشة العنب، (أصبح) هدفاً على خريطة إحداثيات إسرائيلية، وأضحت مرجوحته هدفاً، وإطلالته على مغيبِ شمسِ ربِنا هدفاً. 

 

 

وفق ما تتواتر الروايات بين الأهل أن القرية كانت تُعرف منذ عقود باسم "اليهودية"، بسبب امرأة يهودية عاشت على جبل "بيت الدوارة". كان المسافرون إلى فلسطين يتوقفون عندها في الخان لعدّة أيام فيقولون: "رايحين عند اليهودية"، قبل أن يبدّل اسم البلدة لاحقاً إلى "السلطانية". 

على قدر ما كانت ليالي الربيع والصيف فيه دافئة بالمحبّين والسهر والضحكات والجمعات واحتفالات أعياد الميلاد، على قدر ما كانت ليالي الشتاء فيه برداً وصقيعاً. لكنه اليوم، وبعد الحرب الإسرائيلية على لبنان، أضحى صيفه وشتاؤه سيّان. لا أنسى كيف كان ملجأ لنا أثناء تفشّي فيروس "كوفيد"؛ ووسط الإغلاقات، التي أحكمت الخناق على دول العالم، كيف فتح لنا بيتنا في الجنوب قلبه! إلامَ نحتاج أكثر من ذلك؟ منزل دافئ، وحديقة جميلة كريمة، وهواء نقيّ، وشمس وماء وروح. لم يكن سلوى لي ولعائلتي فقط، بل كان المنزل المحبوب لدى أصدقائي من كل لبنان، وأيتامه كثر للحقيقة. أذكر أنّني عندما علمت بخبر قصف المنزل شعرت بواجب أن أخبرهم، وأن أخبر كلّ من أتى إلى هذا المكان وأحضر معه حبّاً وخيراً.

ما السرّ في هذا التعلّق العميق ببيت الجنوب؟ هو ليس منزلاً تشتريه في منطقة ما، بل هو أرض ورثتها عن أهلك، وتستثمر فيها جنى العمر لتبنّي منزلاً وبيتاً في مكان تعلم علم اليقين أنه ليس على قائمة المناطق الـ 10 الأكثر أماناً في العالم، ومع ذلك... تبني وتتمسّك، فكلّ بيت في الجنوب "مشغول بقلوب"، وكل بيت في الجنوب "لما بغنّي اسمك بحسّ صوتي غلي"... لطالما كانت فيروز رفيقتي في الأيام التي أمضيها في منزل الجنوب؛ لذا لا يسعني إلا أن أذكرها عندما أكتب الفقد. 

 

 

بلدة السلطانية (فاطمة عباني)


 

بعد دخول وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ في لبنان، توجّهنا إلى قريتي السلطانية، وحينها طالعنا ركام المنزل، وكان "زاهداً في ما سيأتي ناسياً ما قد مضى". ها هي فيروز تزورني من جديد... تستذكر والدتي المنزل قائلة: "هذا المنزل نتيجة حرمان وتعب سنين. بعد أن تزوّج أغلب أولادي، ظلّ هو المكان الذي يلمّ شملنا كعائلة في الأعياد والعطل والمناسبات. كلّ مكان في المنزل له ذكرى لا بل كلّ غرض فيه له قصة. يشهد هذا المنزل على جمعة العائلة وصبحيّات الجيران والسهرات".

تقول لي صديقتي إنها لن تتردد ثانية في التوجه جنوباً وزيارتي عند إعادة بناء المنزل. وإن  تأخّر ذلك؟ "سنأخذ بساطاً ونقوم بـ picnic بجانبه" تؤكّد لي.  

 

بلدة السلطانية (فاطمة عباني)

 

 

نعم، ترتبط الذكريات بمكان وزمان ما، ولكنّ الذكريات حرّة برأيي، ولا تتقيّد بشكل كلّي بهما، ولا تنتفي إذا ما انتفى المكان. فإن لم يعد المنزل موجوداً، فلا يعني ذلك أنّنا لم نعشْ هنا، ولم نقضِ لياليَ وأياماً، ولم نتناول "باقات مناقيش" على الفطور، ولم نجتمع على "السطيحة" لشواء اللحمة؛ ولن يعني هذا أننا لم نلعب كرة السلة والقدم مع أبناء إخوتي في ملعب المنزل المتواضع جداً (حقاً جداً). تحوُّل المنزل ردماً لا يعني أن القطط التي كنّا نطعمها ونهتمّ بها لم تعد تأتي لتطلّ علينا، إن عدنا أم لا بين الفينة والأخرى... وأعلم أن الحرب أكسبتني مهارات جعلتني أصلب إلا أنها لم تكسبني مهارة أن أكون أسرع من القطط وهي تهرول إلى المطبخ لتأخذ على عجل ما تستطيع إليه سبيلاً. الذكريات حرّة، والفكرة حرة، وكلّ ما هو حرّ وطليق وغير مادي لا يمكن التخلّص منه بعوامل مادية وخارجية.  

كان يا ما كان بيت من سقف وحيطان حكى قصته للعالم حين هدّمه الكيان.. قصة أمي وأبي وأختي وأخي.. قصة بلد الـ 10452 كلم مربع الأجمل، واسمه لبنان.  

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

تركيا 11/16/2025 6:11:00 AM
كان أفراد العائلة أصيبوا بتوعّك الأربعاء بعد تناولهم أطعمة من باعة متجوّلين
سياسة 11/16/2025 9:53:00 AM
قماطي: "الولايات المتحدة تُعزّز هذه المستودعات وتضغط بكل ما تستطيع لنزع سلاح المقاومة"
سياسة 11/16/2025 2:18:00 PM
حنكش: لضبط كل السلاح خارج الشرعية وخصوصاً مع رواسب الميليشيات المسلحة في المتن وكل لبنان
سياسة 11/16/2025 5:01:00 PM
تجاوز عدد المقترعين عند الإقفال 4700 ناخب