"الخداع الاستراتيجي"... مهارةُ العقل الإسرائيلي في اصطياد العدو
الكثير سيُكتب مستقبلاً عن التفوّق العسكري والتطور التكنولوجي والأداء النوعي في استخدام الوسائل التقنية الحديثة في الحرب. والتفنن بالمراوغة والخداع، أو ما يسمى بـ"الخداع الاستراتيجي"، strategic deception هو جزءٌ لا يتجزأ من هذه الوسائل للدلالة على كيفية عمل العقل الخداعي الأمني الاستخباراتي في تحقيق الأهداف.

عملية "قمة النار" - الدوحة
بات مؤكداً أن يد إسرائيل تصل إلى قادة حماس أينما وُجدوا. آخر تجلياتها، عملية "قمة النار" التي نفذها سلاح الجو الإسرائيلي في الدوحة في محاولة اغتيال وفد حماس المفاوض برئاسة خليل الحيّة، وأبرز قياديّي الحركة مثل خالد مشعل وموسى أبو مرزوق وزاهر جبّارين وغيرهم.
وعلى رغم ردّات الفعل الخليجية العكسية التي أنتجتها العملية، يبدو الداخل الإسرائيلي على تماهٍ مع قيادتهم، إذ بحسب المعلومات، يؤيّد 75% من الإسرائيليين الهجوم.
49% أكدوا دعمهم الكامل للعملية وتوقيتها، و26% أيدوها لكنهم اعتبروا أن التوقيت لم يكن مناسباً. في المقابل، عارض الهجوم 11% من المستطلعين فقط بينما اختار 14% عدم إبداء أي موقف.
وبعيداً عن السيناريوات المطروحة لكيفية نجاة وفد حماس، يضع المحللون السياسيون والخبراء العسكريون عملية الدوحة، في الجزء المتعلق بالتحضير لها، في خانة "الخداع الاستراتيجي" الذي تمارسه إسرائيل بشخص رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو وبمشاركة فاعلة من الجانب الأميركي ومن الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
ولرسم تسلسل زمني للأحداث المحيطة بالعملية، تقول المعلومات إن إسرائيل كانت تخطط لأكثر من شهرين، لتنفيذ العملية واستهداف كبار قادة حماس في قطر.
مع الإشارة إلى أن قطر تضم قاعدة العديد، وهي أكبر قاعدة عسكرية أميركية في المنطقة. والدوحة تعتبر وسيطاً أساسياً في محادثات تحرير الرهائن الإسرائيليين لدى حماس وإنهاء الحرب في غزة، ومحطة يزورها كبار المسؤولين الإسرائيليين والأميركيين باستمرار.
في التوقيت، أتت العملية بعد أيام قليلة من طرح الولايات المتحدة اقتراحها الجديد لوقف إطلاق النار في غزة، وكان رئيس الوزراء القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن جاسم آل ثاني يضغط على خليل الحية، كبير مفاوضي حماس، لقبوله، وذلك في اجتماع عُقد ليل الاثنين 8 أيلول 2025.
ومع انتهاء المناقشات ومغادرة الحية نحو التاسعة والنصف مساءً، نشط الخط الساخن بين الدوحة وتل أبيب واستمر حتى الخامسة من صباح اليوم التالي الثلثاء، في إطار الوصول إلى نتيجة إيجابية في الجهود المبذولة. وكانت حماس قد وعدت بالرد على المفاوضين القطريين بعد 12 ساعةً.
مع الإشارة إلى أنه سبق اجتماع الاثنين بين القطريين والحية، تصريح للرئيس الأميركي يوم الأحد 7 أيلول، أصدر فيه ترامب تصريحاً اعتبره "الإنذار الأخير" لحماس لقبول الصفقة. وادّعى أن إسرائيل قبلت الاقتراح، فيما أعلن المسؤولون الإسرائيليون أنهم "يدرسونه بجدية".
وقبل انقضاء الساعات الـ12 لردّ حماس، أغارت الطائرات الإسرائيلية الثلثاء 9 أيلول على المبنى السكني الذي اعتبرت أن وفدَ حماس موجودٌ فيه.
حصلت العملية على موافقةٍ مبدئية الاثنين.
تم إرجاء العملية يوماً واحداً للتأكد من هوية المستهدفين. وجاءت الموافقة النهائية قبل ساعات فقط من تنفيذ الغارة.
وبحسب المعلومات المسرّبة، أبلغت إسرائيل واشنطن بالعملية في الدقائق الأخيرة.
ورغم نفي البيت الأبيض بمعرفته بعملية استهداف قيادة حماس في الدوحة، إلاّ أنّ مجمل الوقائع تفيد بأنّ نتنياهو لم يكن ليجرؤ على تنفيذ عمليّة بهذا الحجم في دولةٍ تضم أضخمَ قاعدة عسكرية أميركية، وتمتلك أضخم التقنيات ووسائل المراقبة وأكثر أنظمة رادار الإنذار المبكر تقدماً، إلى جانب نظام صواريخ باتريوت للدفاع الجوي، وتُعتبر ذات أهميّة استراتيجيّة سياسياً وعسكريّاً وأمنيّاً واقتصاديّاً للولايات المُتّحدة، من دون معرفة دونالد ترامب.
وهذا يقود إلى استنتاج أنّ طرح ترامب الأخير بشأن وقف إطلاق النّار في غزّة كانَ يهدف إلى جمع قيادة "حماس" في مكان واحد. لكنّ فشل العملية دفع بواشنطن إلى التنصل من المعرفة المُسبقة بها.
وبالتالي، هذا يقودنا إلى استنتاج أيضاً بأن هذه العملية تندرج في إطار المراوغة و"الخداع الاستراتيجيّ" الذي تُمارسه إسرائيل بالتنسيق مع الولايات المتحدة الأميركية كما حصل في اغتيال السيد حسن نصرالله في 27 أيلول 2024.

اغتيال نصرالله
"ترتيبٌ جديد"، هو الاسم الذي أُطلق على عملية اغتيال نصرالله، بعد تنفيذها.
شارك في التحضير أجهزة الاستخبارات و"الموساد" و"الشاباك" والجيش وقيادة الشمال وسلاح الجو ووحدات خاصة وغيرها. وأشرف عليها نتنياهو من طائرته التي تحوّلت إلى غرفة عمليات.
وفق المعلومات العسكرية الإسرائيلية، فإن الظروف لاغتيال نصر الله نضجت، يوم الأربعاء 25 أيلول 2024، أيّ قبل يومين من اغتياله.
وبحسب تقرير لجهاز الأمن الإسرائيلي، أُجريت مناورة تكتيكية لتخدير قيادة "حزب الله" التي ابتلعت "الطعم"، إذ أُعلن أن نتنياهو سيسافر إلى نيويورك "من أجل تمويه وتنويم قيادة "حزب الله" لعدم إثارة شكوك حول نية اغتيال نصرالله والقيادة.
أضاف التقرير أنه "لولا التصرف بهذه الطريقة لما عُقد اجتماع رفيع المستوى في مكان سري في قلب حي في الضاحية الجنوبية لبيروت".
يوم الخميس 26 أيلول 2023، جرت مشاورات أمنية عبر الهاتف بين الكابينيت ونتنياهو استمرت حتى الرابعة فجراً، تقرر في نتيجتها تفويض نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت، بالموافقة على تنفيذ الاغتيال.
في العاشرة من صباح يوم الجمعة 27 أيلول 2024، أجرى نتنياهو مشاورات أمنية مع غالانت ورئيس الأركان هرتسي هليفي.
وقبيل كلمته في الأمم المتحدة وصلت معلومات استخباراتية مؤكدة، بوجود نصرالله في اجتماع كبير لقادة "حزب الله" وآخرين إيرانيين، فصادق نتنياهو على تنفيذ العملية قبل أن يعتلي منصة الأمم المتحدة ليلقي خطابه. ومشهورة الصورة التي التُقطت لنتنياهو في هذا السياق وهو يجري المكالمة الهاتفية لاغتيال نصرالله.

ضربة ايران 13 حزيران 2025
سؤال مهم يُطرح حول كيفية نجاح الحملة الإسرائيلية الأميركية في خداع إيران وإعطائها شعوراً زائفاً بالأمن؟
سبق الضربات الإسرائيلية على ايران سياقٌ سياسي وتفاوضي وحتى عسكري استراتيجي، فَهم فيه النظام الإيراني تصريحات ونوايا الرئيس الأميركي دونالد ترامب خطأ. وهو أمر استغله بنيامين نتنياهو جيداً.
الضربات الإسرائيلية على إيران بدأت في الساعات الأولى من يوم الجمعة، 13 حزيران 2025، أيّ بعد يومين على انتهاء مهلة الـ60 يوماً التي حددها ترامب لطهران للبتّ بمصير منشآتها النووية.
شنّت إسرائيل سلسلة من الضربات الجوية غير المسبوقة وواسعة النطاق على أهداف داخل الأراضي الإيرانية، شملت منشآت نووية، ومصانع صواريخ باليستية، وقادة عسكريين، وعلماء نوويين.
وقبيل الضربة بأيام، انطلقت حملة تضليل إعلامي متعددة الأوجه لإقناع طهران بأن ضربة على منشآتها النووية ليست وشيكة.
وقد كان الرئيس الأميركي دونالد ترامب مشاركاً نشطاً في هذه "الخدعة".
يوم الاثنين 9 حزيران، تحدث نتنياهو وترامب عبر الهاتف لمدة 40 دقيقة، أي قبل الضربة الإسرائيلية بأربعة أيام. وتم تسريب أجواء تضليلية لوسائل الاعلام، استندت إلى عدة عناصر.
- أفيد بأن المحادثة بين ترامب ونتنياهو كانت "درامية".
- بدأ الإعلام الإسرائيلي والغربي يتحدث عن رفض ترامب أي هجوم على المواقع النووية الإيرانية مع استمرار المفاوضات حتى إلى حين التثبت من فشلها.
- الثلاثاء 10 حزيران، بدأ نتنياهو والمستوى السياسي الإسرائيلي إشاعة معلومات عن وجود تقدم ملحوظ في محادثات الأسرى مع حماس.
- تم ابلاغ الصحافة الإسرائيلية بأن اجتماع مجلس الوزراء يوم الخميس 12 حزيران سيتناول محادثات الرهائن.
أرادت إسرائيل من هذا السيناريو دفع إيران إلى الاعتقاد بأنها تركز بشكل أساسي على إبرام صفقة رهائن، وليس على التحضير لضربة، وفي الوقت نفسه، الإبقاء على احتمالات الضربة.
أعلنت إسرائيل آنذاك عن لقاء مرتقب بين وزير الشؤون الاستراتيجية رون ديرمر ورئيس الموساد ديفيد برنياع مع المبعوث الأميركي الخاص ستيف ويتكوف قبل الجولة المقررة من المحادثات بين طهران وواشنطن، يوم الأحد 15 حزيران، مدّعية بأن الهدف من الزيارة هو "توضيح موقف إسرائيل".
وكان واضحاً، أن الخدعة كانت بأن يقتنع الإيرانيون باستحالة شن هجوم قبل المحادثات المرتقبة الأحد.
يوم الخميس 12 حزيران، أعلن مكتب نتنياهو أنه رغم التوترات فإن الأخير لن يلغي عطلته الأسبوعية شمال تل أبيب.
وكان خبر زواج نجل نتنياهو في الأسبوع الذي يلي المحادثات، زاد الخدعة صدقية، إذ استمرت الاستعدادات للحفل، واتخذت كل الإجراءات الأمنية واللوجستية المطلوبة لإتمام حفل الزفاف الذي تم تأجيله لاحقاً. وهو حدث دفع الكثيرين إلى الاعتقاد بأن ضربة وشيكة على إيران غيرُ مرجحة.
الرئيس ترامب من جهته، "لعب اللعبة مع إسرائيل"، وبتنسيق كامل"، بحسب ما أفاد مسؤول إسرائيلي.
وقد صرح ترامب يوم الخميس أيضاً بإمكانية حصول ضربة إسرائيلية على المواقع النووية الإيرانية، لكنه نصح بعدم القيام بذلك، واعتبر أن احتمال التوصل إلى اتفاق ممكن إذا تنازلت طهران عن طموحاتها النووية.
كذلك، صرّح السفير الأميركي لدى إسرائيل، مايك هاكابي Mike Huckabee، في مقابلة يوم الخميس أيضاً بأنه من غير المرجح أن تهاجم إسرائيل إيران من دون موافقة واشنطن.
وليل الخميس، وقبل تسع ساعات من الهجوم الإسرائيلي، أعلن الصحافي الإسرائيلي المخضرم رافيف دراكر Raviv Drucker بثقةٍ أنه "لا توجد فرصة" لشنّ ضربة إسرائيلية على إيران. وكان دراكر يعبر عن رأي إسرائيلي شامل، إذ افترض الجميع بأن الأميركيين يكبحون جماح إسرائيل.
الاعتقاد السياسي لدى النظام الإيراني كان قريباً أيضاً من هذه التحليلات، إذ كان متأكداً من أن نتنياهو، ولو أنه يرغب بالضربة، فهو لا يمكنه التصرف بمفرده ويحتاج إلى الدعم الأميركي السياسي والعسكري الموجود في منطقة الشرق الأوسط بإدارة القيادة الوسطى.
إلاّ أنّ النتيجة كانت، أنّ إسرائيل امتلكت عنصر المفاجأة وباغتت ايران بضربة عنيفة قتلت كبار قادتها العسكريين والعديد من العلماء النوويين في فراشهم، كحسين سلامي وعلي شمخاني.
ولعلّ ما أثار الدهشة في إسرائيل هو أن الوزراء لم يُسرّبوا أي شيء يتعلق بالخطط، بل أدوا أدوارهم على أكمل وجه.

عملية البيجرز
وتدخل عملية "البيجرز" أيضاً ضمن عمليات "الخداع الاستراتيجي" التي استخدمها الموساد الإسرائيلي.
تم من خلال هذه الاستراتيجية الخبيئة إرغام عناصر وقادة ومسؤولي "حزب الله" على استخدام أجهزة "البيجرز" باعتبارها مصدر اتصال آمن، بعد الانتكاسات الكبيرة التي لحقت بالحزب وعناصره من قوة النخبة جراء مراقبة الخطوط الخليوية وتحديد أماكنهم واستهدافهم. فاعتُبر "فخ البيجر"، أكبر قصة تمويه استخباراتي قادت لضرب بنية "حزب الله" الأمنية والاستخباراتية والبشرية.
إشارة إلى أن الإسرائيليين يمتلكون في ذاكرة تاريخهم العسكري والاستخباراتي والعملياتي الكثير من الأحداث والعمليات التي نُفذت بأسلوب المراوغة والمخادعة، ساهمت في تفوقهم وفي تعديل مسارات لصالحهم.
نبض