يتنامى دور الجاليات اللبنانية المنتشرة في العالم، وقد تجلى بوضوح إثر الأزمة الاقتصادية التي ألمت في البلاد في العام 2019، ولعب المنتشرون دوراً أساسياً في دعم صمود الاقتصاد الوطني من بوابة ذويهم. ايضاً، كان حضور الاغتراب جلياً ومؤثراً في انتخابات العام 2022. في بلد تتناقص فيه الثقة بالدولة، ويتسابق أبناؤه إلى الهجرة، خصوصاً أصحاب الكفايات العالية، وأيضاً أصحاب رؤوس الاموال، يصبح صوت المغترب اللبناني حاجة وطنية لا رفاهية ديمقراطية. ومع ذلك، تستمر المحاولات لسلب هؤلاء حقّهم في المشاركة الكاملة بالانتخابات النيابية، من خلال طرح تخصيص "مقاعد مستقلة" لهم خارج دوائر الوطن، وكأنّهم ناخبون من درجة ثانية.
لذا يُطرح موضوع مشاركة المغتربين في الانتخابات النيابية كحقّ دستوري أساسي، يثير جدلًا حول آلية تطبيقه. في حين تنص القوانين اللبنانية على مساواة اللبنانيين في الحقوق والواجبات، ومنها الحق في الاقتراع، يُقابل ذلك توجه لتخصيص مقاعد برلمانية خاصة بهم، وهو ما يطرح إشكاليات تمثيلية وعملية، خاصة أن معظم الدول الديمقراطية لا تعتمد هذا الأسلوب بل تدمج أصوات المغتربين في الدوائر الأصلية داخل الوطن. المغتربون ليسوا مجرد "رعايا" في الخارج، بل هم امتداد حيّ للوطن، وأصحاب مصلحة حقيقية في مستقبل الدولة ومؤسساتها. الخطير في الأمر، هو محاولة عزلهم وقطع ارتباطهم الحقيقي بالحياة السياسية المحلية، في محاولة واضحة لتقليص تأثيرهم على مسار التغيير. واذا كان ظاهر هذا التوجه هو إنصاف المغتربين، فإن حقيقته تفريغ لأصواتهم من فاعليتها السياسية الحقيقية.
وعلى الرغم من تخصيص 6 مقاعد للإغتراب في قانون عام 2022، إلا أن هذه الخطوة لم تطبق في حينها وجرى تأجيلها مع تطبيق الميغا سنتر والبطاقة الممغنطة. مجدداً عاد الحديث في الموضوع، ونشطت حالة الاعتراض. وقدمت مجموعة من النواب اقتراح قانون معجل مكرر بشأن تعديل مواد القانون رقم 44 تاريخ 14/6/2017 في ما خص قواعد اقتراع اللبنانيين غير المقيمين. والنواب هم "ميشال دويهي، أديب عبدالمسيح، نعمة افرام، أسامة سعد، جورج عقيص، هاكوب ترزيان، أحمد الخير، فيصل الصايغ وابراهيم منيمنة.
وفي سياق تنظيم مشاركة اللبنانيين غير المقيمين في الانتخابات النيابية، أُدخلت تعديلات على بعض مواد القانون رقم 44 تاريخ 17 حزيران 2017، ومن بينها المادة 112، بهدف توضيح الآليات القانونية والإجرائية الخاصة باقتراع المغتربين وضمان حسن سير العملية الانتخابية خارج الأراضي اللبنانية.
تنص المادة 112 المعدّلة على أن الأحكام العامة التي ترعى اقتراع اللبنانيين المقيمين في لبنان تُطبَّق أيضاً على اقتراع غير المقيمين، شرط ألا تتعارض مع النصوص الخاصة المنصوص عنها في هذا القانون. وهذا يعني أن المغتربين يتمتعون، من حيث المبدأ، بنفس الحقوق والضوابط الانتخابية المطبقة على المقيمين، مع مراعاة خصوصية عملية الاقتراع في الخارج.
أما الفقرة الثالثة من المادة 113، فتحدد بوضوح مواعيد تسجيل اللبنانيين غير المقيمين الراغبين بالمشاركة في الانتخابات. حيث تفتح وزارة الداخلية والبلديات، بالتنسيق مع وزارة الخارجية والمغتربين، باب التسجيل اعتباراً من 20 أيار من السنة التي تسبق موعد الانتخابات، ويُغلق باب التسجيل في 20 تشرين الثاني من نفس السنة. بعد هذا التاريخ، يُسقَط حق غير المسجلين بالاقتراع في الخارج، وتُكلّف البعثات الدبلوماسية اللبنانية بإرسال لوائح المسجّلين تباعًا إلى المديرية العامة للأحوال الشخصية عبر وزارة الخارجية، على أن يتم ذلك قبل 20 كانون الأول.
وفي ما يخص تنظيم القوائم الانتخابية للمغتربين، توضح المادة 114 المعدّلة أن الدوائر المختصة في المديرية العامة للأحوال الشخصية تتولى التحقق من أسماء المسجلين، ثم تنظم قوائم انتخابية مستقلة لكل سفارة أو قنصلية، تضم فقط الأسماء التي تتوافر فيها الشروط القانونية. ويُشترط ألا يقل عدد الناخبين المسجلين في كل مركز انتخابي عن مئة ناخب. كما توضع إشارة على القيد لمنع هؤلاء من الاقتراع في محل إقامتهم الأصلي داخل لبنان، ويُذكر مكان تسجيلهم في الخارج ضمن السجلات الانتخابية. وتُعتبر كل بعثة لبنانية مركزًا انتخابيًا واحدًا، ويشمل نطاقها الإقليمي الدول الأخرى التي تغطيها تلك البعثة غير المقيمة، وذلك لأغراض احتساب عدد الناخبين المسجلين.
يسلّط الشاب اللبناني المغترب بول شليطا (مجموعة Change Lebanon) الضوء على التحديات التي تعترض مشاركة النواب المغتربين في أعمال اللجان النيابية وفي عمليات التصويت على القوانين داخل البرلمان، مشيراً إلى أن غياب آلية التصويت الإلكتروني أو عن بُعد في لبنان، يُشكّل عائقاً جوهرياً أمام هذه المشاركة الفعلية.
ويُشدّد شليطا على أن المغتربين لم يتخلّوا يوماً عن لبنان، بل كانوا عماداً له في كل الأزمات، من خلال دعمهم المالي والاقتصادي، وحتى عبر الانخراط في الشأن العام والسياسي. ويُستدلّ على ذلك بوضوح من خلال حجم التحويلات المالية الضخمة التي يرسلها المغتربون إلى عائلاتهم في الداخل، والتي تمثّل شريان حياة للاقتصاد اللبناني.
ويؤكد شليطا أن الاقتراع حق أساسي لكل لبناني غير مقيم يسعى إلى إيصال صوته وخياراته الوطنية. أما القانون الذي يخصص ستة مقاعد نيابية فقط للمغتربين، فيراه قانونًا هشًّا وغير منطقي. ويسأل مستغربًا: ما هي مهمة النائب المقيم في الخارج؟ كيف ستُدار آلية الاقتراع؟ وهل سيتوزع النواب الستة على لوائح وطنية أم سيكونون ضمن لائحة واحدة؟ محذرًا من أن هذا الطرح قد يؤدي إلى زيادة الأعباء المالية من دون وضوح فعلي لمهامهم البرلمانية.
من جهته، يرى أنطوان داموس من مجموعة كلنا إرادة، وهو اللبناني المقيم في فرنسا، أن حصر تمثيل المغتربين بستة نواب فقط يُفضي إلى عزل تدريجي للمغترب عن وطنه. ويضيف: "المغترب الذي غادر وطنه قسرًا ولا يزال يُرسل الدعم لعائلته، لا يريد أن يُنتخب نائباً عن المهجر بل يريد أن يبقى صوته متصلاً بجذوره، بقريته ومنطقته، وإلا خسرنا الرابط الحيوي بين الطاقات الاغترابية ولبنان". ويُشدد على أن تمثيل نصف مليون مغترب في أوروبا بنائب واحد فقط يطرح علامة استفهام كبيرة حول فعالية هذا التمثيل وجدواه.
أما رولا عفرا، المقيمة في الإمارات منذ أكثر من عشرين عاماً، والتي تحرص على زيارة لبنان ثلاث مرات سنويًا وتتابع شؤونه السياسية عن كثب، فترى أن القانون الحالي مجحف بحق اللبنانيين في الخارج. وتقول: "نحن كمجموعات اغترابية، ومن ضمنها مجموعة Team Hope التي أنتمي إليها، طالبنا بتعديل القانون ليُتيح للمغترب انتخاب ممثله في القضاء الذي ينتمي إليه، أسوة بالمقيمين".
وتُضيف: "الإقبال الكبير للمغتربين على صناديق الاقتراع في الانتخابات الماضية يُثبت عمق الارتباط بلبنان، ويؤكد الرغبة في التأثير الفعلي في السياسات العامة التي ترسم مستقبل الوطن".
كلام المغترب اللبناني يؤكد أن حصر تمثيل المغتربين اللبنانيين بستة نواب لا يُلبّي حجم الطموحات ولا يعكس الوزن الفعلي للجاليات اللبنانية في الخارج، لا ديموغرافيًا ولا اقتصاديًا. فالمغترب ليس مجرد داعم مالي، بل هو شريك في القرار الوطني. وأي محاولة لحصر صوته أو تحجيم تأثيره لن تؤدي سوى إلى تعميق الفجوة بين لبنان المقيم ولبنان المنتشر. إن إعادة النظر في هذا القانون ليست مطلباً فئوياً، بل ضرورة وطنية تضمن وحدة التمثيل وتعزّز مفهوم الشراكة الشاملة في بناء الدولة.
تجدر الإشارة إلى أن النواب التسعة طرحوا مشروع القانون استجابةً لطلب من 16 مجموعة من الجاليات اللبنانية في المهجر. والمجموعات هي :
1. Celibal - Latin American Center For Lebanese Studies
2. Change Lebanon
3. Collectif Libanais de France
4. Diaspora Libanaise Overseas – جمعية الإنتشار اللبناني ما وراء البحار
5. Forum Libanais en Europe – المنتدى اللبناني في أوروبا
6. Kulluna Irada – كلنا إرادة
7. Lebanese Executives Council – مجلس التنفيذيين اللبنانيين
8. Lebanese Expatriate Movement – الحراك الاغترابي اللبناني
9. Lebanese National Alliance
10. Meghtebrin Mejtemiin – مغتربين مجتمعين
11. Mouvement des Citoyens Libanais du Monde – مواطنون لبنانيون حول العالم
12. Our New Lebanon
13. Sawti – صوتي
14. TeamHope
15. The Lebanese Diaspora Network – شبكة الاغتراب اللبناني
16. World Lebanese Cultural Union – الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم
نبض