في الطريق من مدينة صور إلى مقر "اليونيفيل" في الناقورة جنوب لبنان، تتمظهر حياة الجنوب بشقيها. الأول تملأه محاولات العودة إلى الحياة الطبيعية وصنوها حركة السير الكثيفة وصخب المحالّ التجارية، وتخذلها مظاهر الدمار والنفايات المكدّسة في طرق المدينة وشعارات الحرب التي تذكّر بالأثمان وتتوعّد باستكمال مسار يبدو أنه محط نقد جدّي من البيئة المعنيّة ولو في حيّز محدود. والشق الثاني، تلمسه مع تجاوز حاجز بلدة البياضة حيث الدمار والأمكنة المقفرة والمحالّ المقفلة منذ تاريخ وقف إطلاق النار بين اسرئيل و"حزب الله"، ذلك أن الجيش لم يسمح بعودة السكان إلا صباح أمس. 

View this post on Instagram

A post shared by Annahar (@annaharnews)

يتخذ الجيش إجراءات واضحة للعيان، تدقيق في هويات المارة وسؤالهم عن غاية العبور. دوريات على مدار اليوم. في الشكل، الدولة هنا. في قرى القطاع الغربي، لا يختلف مشهد الدمار والأثمان الباهظة إلا عن مشهد قرى في القطاعين الأوسط والشرقي، تشي فيديوات تبثها إسرائيل والتفجيرات المستمرة فيها بحجم دمار هائل لا يوازيه آخر، حيث توثق العدسة إبادة قرى وأحياء. 

في جولتنا الجنوبية، تحدثنا إلى عدد من أهل الأرض، أحدهم خسر ولده الذي قاتل مع "حزب الله" في سوريا. تحدثنا إليه بينما كان يقف على ركام سوق بلدة معروب الذي سوّاه القصف الإسرائيلي أرضاً، فبادرنا بأن "الغصّة لدى الجميع اليوم حين نرى إسرائيل تسرح وتمرح في قرى الجنوب بعد كل التضحيات، وإني أؤكد لكم أن السيد حسن نصرالله لو كان موجوداً  لما كان قبل باتفاق وقف النار كما جرى التوقيع عليه". وما العبرة من الحرب؟ ألم تتعبوا كبيئة من الحرب والقتال؟ "لعنة الجغرافيا تحاصرنا، وحروب إسرائيل واعتداءاتها عمرها عقود، ونأمل أن تحمينا الدولة ويدافع عنا الجيش... هذا ما نريده". 

موقع اسرائيلي قبالة مركز اليونيفيل في الناقورة

وإن كان مؤيدون للحزب يتمسكون بشعارات الفداء، فإن لسان حال يظهر تبايناً تجاه الواقع يمكن سماعه في أحيان كثيرة. هكذا يحدثنا شاب جنوبي عن ضرورة الاعتبار من الحرب وعدم الاستهانة بقدرة إسرائيل التدميرية ووجوب عدم جرّ الناس إلى مغامرات جديدة. يتحدث الشاب المقرّب من أحد التيارات السياسية العلمانية، عن رغبة الجنوبيين كما غيرهم من اللبنانيين في الازدهار والاستقرار والعيش بأمان من دون تهديد وتبعية لمحاور ومشاريع خارجية. 

إلى مقر "اليونيفيل" في الناقورة، حيث يرافقنا المتحدث الرسمي أندريا تينينتي في جولة داخل المراكز، ومن برج يشير إلى السياج التقني الذي ثبّته من جانب واحد فقط الجيش الإسرائيلي، و"لا يعترف به المجتمع الدولي"، وفي تلك المنطقة ترى أيضاً الخط الأزرق. 

بعدها، يطلعنا تينينتي على برج المراقبة التابع لليونيفيل الذي استهدفته قذيفة من دبابة ميركافا إسرائيلية بعد توجيه أشعة الليزر باتجاهه وقد سقط جنديا حفظ سلام أندونيسيان من أعلى البرج بعد استهدافه وجُرحا. وكذلك تعرّضت مراكز اليونيفيل التي نزورها داخل المقر العام إلى سقوط صاروخ كاتيوشا من جانب "حزب الله" أصاب مستودعاً ولم يصب أحد بأذى. 

يتحدث تيننتي عن إعادة انتشار الجيش اللبناني بالتنسيق مع اليونيفيل التي يذهب عناصرها إلى الأماكن التي يخليها الإسرائيلي للتأكد من خلوّها قبل أن يدخلها الجيش اللبناني. 

ويتناول اكتشاف اليونيفيل وتعقبها العديد من مخابئ الذخيرة في جميع أنحاء مناطق العمليات، ومساهتمها في تطهير الأرض من الأسلحة غير المنفجرة.

الدفاع المدني ينتشل ضحية من تحت الركام في الخيام

ويؤكد المحافظة "على استقلاليتنا من حيث تسيير الدوريات، وبمجرد أن نجد نشاطات مشبوهة، لا نقوم نحن بأخذ الأسلحة، نتصل بالجيش اللبناني الذي يضع اليد عليها ويتعامل معها"، مشيراً إلى أن "الجيش اللبناني أيضاً يجد أسلحة بنفسه وليس من خلال معلوماتنا بل من خلال نشاطه في مناطق العمليات". ويلاحظ تينيتي سرعة الحركة في هذه المرحلة، مبيّناً الحاجة إلى تدعيم قوات اليونيفيل كما الجيش بالمزيد من الإمكانيات التقنية لتسهيل العمل وتسريعه أكثر. 

وبطبيعة الحال، لم تبدّل تفاصيل آلية وقف إطلاق النار من طبيعة عمل "اليونيفيل" على الأرض. في الجوهر، بقيت صلاحياتها الأساسية تتمثّل في تسيير دوريات والتنسيق مع الجانبين اللبناني والإسرائيلي، وتعقب "الأعمال المشبوهة"، ومساندة الجيش اللبناني لتطبيق القرار ١٧٠١. أما في الشكل، فوتيرة عمل عناصرها زادت منذ دخول قرار وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ، مع تزايد الحاجة الميدانية للتنسيق مع الأطراف وبينهم، أضف إلى الأريحيّة في تنقلاتها وعملياتها، وهو الأمر الذي جرى تقويضه قبل اندلاع الحرب الأخيرة حيث سجلت حوادث عدة حين اعترض سكان محليون مناصرون ل"حزب الله" على عمليات محددة كانت تقوم بها أو تخطّي دورياتها ما اعتبروه "خطاً أحمر". الأكيد أن الاعتداءات الاسرائيلية التي طالت "اليونيفيل" في الحرب الأخيرة فتحت نقاشاً لدى بعض الدول حول سحب عناصرها، لكن الأمر حسم لصالح إقفال هذا النقاش وتعزيز حضورها في زمن الحاجة الملحة إليها على الأرض.

ويتحدث عن قناة اتصال مفتوحة يومياً بين القائد الأول والجانبين اللبناني والإسرائيلي، معتبراً أن عدد عناصر اليونيفيل كافٍ في الوقت الحالي. وإن كان الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أكدّ لـ"النهار" السبت الفائت يقينه بالانسحاب الإسرائيلي الكامل، فإن الاستماع إلى المعنيين خلال جولتنا الجنوبية، يشير إلى القلق البالغ من الأفعال وردود الأفعال، مع يقين أكيد أيضاً بأن فتح جبهة قتال جديدة لن يكون سهلاً بالنسبة إلى الجنوبيين الذين دفعوا ثمناً باهظاً في الأمس القريب، وما زالوا يلملمون أشلاء ضحاياهم ويتوقون للعودة إلى منازلهم، وفي الوقت نفسه لن يكون ممكناً التسليم بواقع أيّ احتلال لا من قبلهم ولا من قبل العهد اللبناني الجديد.