سكان القرى الحدودية جنوب لبنان يعانون استمرار غربتهم عن أرضهم
أحمد م. الزين
"الوضع المادي لا يسمح لنا بالبقاء خارج ضيعتنا. مهما كانت الظروف، العودة إلى بلدنا أفضل بكثير لنا، لأن الأوضاع الاقتصادية شديدة الصعوبة. نحن نقيم أكثر من عائلة في شقة واحدة، ولا يمكننا الاستمرار على هذه الحال". بهذه الكلمات تختصر إحدى النازحات من بلدة مركبا، الواقعة على الشريط الحدودي، معاناتها. بدأت رحلة نزوحها قبل نحو عام، حيث انتقلت أولاً إلى النبطية، ثم إلى العاصمة بيروت عندما اشتدت الحرب، قبل أن تستقر مؤقتاً في الضاحية الجنوبية. كل ذلك بانتظار اليوم الذي تتمكن فيه من العودة إلى ديارها واستعادة حياتها الطبيعية.
على مدى أكثر من عام، أجبر القصف الإسرائيلي المستمر وإنذاراته المتواصلة أكثر من 100 ألف شخص من القرى الحدودية على النزوح، تاركين منازلهم وأرضهم لمواجهة واقع قاسٍ فرضته جغرافيا على تماس مع عدو لا يرحم. لكن بُعد الجنوبي عن أرضه ومنزله يشبه بُعد السمكة عن الماء، لا يحتمل الغياب طويلاً. تعبّر ابنة مركبا عن هذا الشعور بوضوح حين تقول: "نفكر في العودة السريعة حتى لو كانت قبل انتهاء مهلة الـ60 يوماً. لا نمانع العودة إلى بيتنا ولو اضطررنا لنصب خيمة والعيش فيها، فهذا أفضل بكثير من البقاء على هذه الحال".
ورغم أن بعض المنازل نجا من الدمار الكامل، فإن أضراراً بالغة لحقت بمعظمها، وهذا يبدو كأنه محاولة ممنهجة لسحق فكرة العودة وإعادة الحياة إلى تلك القرى. المعاناة النفسية للأهالي لم تقلّ عن معاناتهم المادية؛ فالبُعد عن المنزل والأرض ترك جرحاً عميقاً لا يلتئم بسهولة. أما اقتصادياً، فقد وجد النازحون أنفسهم في مواجهة ظروف معيشية خانقة خارج قراهم، حيث ازدادت التحديات المرتبطة بتأمين السكن، الغذاء، والرعاية الصحية، لتصبح الحياة اليومية عبئاً ثقيلاً يضاف إلى ألم النزوح.
يروي الشاب علي وزني لـ"النهار" تفاصيل رحلته مع النزوح، التي بدأت بعد اضطراره إلى ترك منزله في بلدة حولا نتيجة القصف، مروراً بمنازل مؤقتة تنقّل بينها بسبب تضرر منزل عائلته في الضاحية الجنوبية وأيضاً في حولا. استقر أخيراً في منزل خاله في بلدة كفررمان، ويقول: "أصبح من الصعب جداً التفكير في العودة والعمل في حولا بسبب حجم الدمار. نفكر أنا وعائلتي في استئجار منزل في كفررمان والاستقرار الدائم هنا".
ما كان يُعتقد أنه نزوح مؤقت تحوّل مع مرور الوقت إلى واقع دائم فرض نفسه بقوة. البعد عن القرى، التي تشكل جزءاً لا يتجزأ من هوية الأهالي، زرع في نفوسهم شعوراً بالغربة حتى وهم ضمن حدود وطنهم. زهرة خليل، التي نزحت من قرية الظهيرة إلى الصرفند، تختصر معاناتها بقولها: "لولا وجود منزل عائلتي هنا، لكان نزوحنا أصعب بكثير، خاصة أن زوجي متوفى وأعتمد مادياً على بيع زيت الزيتون من الكرم الذي تركه لي". لكن المأساة لم تتوقف عند ذلك؛ إذ تعرّض منزلها للتدمير واحترق كرم الزيتون بالكامل. تضيف زهرة بحرقة: "قلبي عُصر حزناً عليهما". ورغم وجودها مع عائلتها في مكان آمن نسبياً، فإنها تفضّل العودة السريعة إلى قريتها وإعادة إعمار منزلها وأرضها، كما وُعدت بذلك، لاستعادة ما بقي من حياتها الطبيعية.
اليوم، تجد هذه العائلات نفسها أمام مفترق طرق شاق. العودة إلى القرى تعني مواجهة تحديات جسيمة، بدءاً من إعادة إعمار المنازل والبنى التحتية إلى تأمين سبل العيش في ظل تهديد الاعتداءات المستمرة. أما البقاء في مناطق النزوح، فهو قبول بواقع غريب يزيد من شعورهم بالغربة ويعمّق الفجوة بينهم وبين جذورهم.
نبض