حوش السيّد علي الحدودية مع سوريا... علم وجنود وسط صمت الحياة المهجورة

بين دولتين، وعلى حافة الجغرافيا، تقع حوش السيّد علي، بلدةٌ لم يعد يسكُنها أحد، هجرتها الحياة منذ شهور، وبقي فيها فقط العلم اللبناني يرفرف شامخاً فيما الجيش اللبناني يرابط بصمت. هي ليست مجرد بقعة على الخريطة، بل قصة وطن صغير يدفع ثمن موقعه الجغرافي وغياب قرار يعيد الحياة إلى عروقه.
كانت "النهار" قد زارت البلدة في تقرير خاص لتوثيق صمودها المؤلم. لم تكن الطرق وحدها هي من أرشدني إلى حوش السيّد علي، بل إحساسٌ خفي بالغياب يسبق الوصول. ما إن تجاوزت آخر نقطة مأهولة وبدأت أتغلغل في الطرق المؤدية اليها من محلة الشوغير وبسيبس، حتى استقبلتني لوحة باهتة تحمل اسم اسمها، كأنها شاهد ظل على زمنٍ مضى.
ما إن تطأ قدماك هذه الأرض، حتى تشعر بثقل الغياب. البيوت المقفلة والمدرسة الفارغة تحكي حكاية أناس اضطروا الى هجر كل ما يملكون، تاركين خلفهم ذكريات وصوراً لأيام كانت تضجّ فيها البلدة بالحياة. لكن الأرض هنا لا تزال تنبض بالأمل، منتظرةً عودة أصحابها، كأنها تحتفظ بآخر نَفَسٍ من الحنين.
الوهلة الأولى كانت كافية لإدراك حجم الفاجعة. بيوتٌ متناثرة هنا وهناك، بعضها بسقوف منهارة وجدران نخرها الرصاص والقذائف، تحكي قصصاً عن أوقات مرعبة وأيامٍ عصيبة دفعت سكانها الى الرحيل.
نوافذٌ مكسورة تحدق في الفراغ، كأنها عيونٌ دامعة تتذكر ضحكات أطفال وأحاديث سمر كانت تملأ المكان. حاولت جاهدةٍ أن أتخيل الحياة التي كانت تدبّ في هذه الأرجاء، لكن الصمت المهيمن كان أقوى من أي خيال.
تجولت بين الأزقة الضيقة التي تعلوها الأعشاب البرية، وشاهدت أبواباً حديدية مخلوعة وأبواباً خشبية متصدعة، بالكاد تقاوم عبث الرياح. حاولت فتح أحدها، لكنها أبت، كأنها تحافظ على أسرار دفينة أو ربما تخشى أن يكشف الداخل عن مزيد من الألم.
هنا، تركت الحياة بصماتها واضحة، لكنها اليوم مجرد أطلال صامتة.
ابتعدت عن البيوت المدمرة واتجهت نحو الأراضي الزراعية التي تحيط بالبلدة. مشهدٌ آخر يبعث على الأسى. حقولٌ واسعة كانت يوماً تكتسي بالخضرة، تحولت اليوم إلى مساحات قاحلة جرداء. تربة متشققة تئن تحت وطأة الشمس، وآثار محاريث صدئة تروي حكاية جهدٍ ضائع وأملٍ تبخر.
حتى الأشجار، التي يفترض أن تكون رمزاً للحياة والصمود، بدت يابسة هزيلة، أغصانها المتشابكة بأذرعٍ تستنجد بالمياه أو ربما بأصحابها الغائبين.
وسط هذا المشهد القاتم، يبرز حضور الجيش اللبناني حارساً أميناً. جنودٌ مرابطون في نقاط تمركز متفرقة، عيونهم يقظة تراقب الحدود، وأيديهم على الزناد لإحباط كل محاولة تسلّل أو تهديد بفضل يقظتهم وتفانيهم.
رغم قسوة الطبيعة ووطأة الوحدة، يظهر إصرارهم العجيب على حماية هذه البقعة المنسية من الوطن. إن وجودهم هنا ليس مجرد حماية للحدود، بل هو تأكيد على أن الدولة لم تنسَ هذه الأرض. إنهم السدّ المنيع الذي يحمي الداخل من المخاطر العابرة، والخط الفاصل بين الأمن والفوضى. وجوههم ونظراتهم تقول ببساطة: "نحن هنا لحماية أرضنا وأهلنا، وسنبقى حتى يعودوا".
لكن القصة لا تنتهي عند هذا الحد. فالجيش، رغم تفانيه، ينتظر مع الأهالي عودتهم، مدركاً أن الوطن الحقيقي ليس مجرد أرض، بل هو شعب.
وفي حديث لأحد سكان البلدة، حسن جلوس قال لـ"النهار": "عدد المنازل في البلدة 150 فيما هجّر نحو 250 شخصاً بسبب الحوادث الأمنية الأخيرة والتسلل الذي نفّذته مجموعات مسلحة من الجانب السوري".
وأضاف: "دخلوا علينا، تركنا بيوتنا حفاظاً على أرواحنا. اليوم، الجيش اللبناني موجود، وهو يحمي بيوتنا وأرضنا، ونشكره على ذلك. لكننا نأمل من الدولة أن تعزّز وجودها أكثر، لنشعر بالأمان ونتمكن من أن نرجع الى بيوتنا ونخرج من هذا القلق".
حسن النمر، عبّر عن حجم المعاناة بقوله: "البيوت كلها محروقة ومنهوبة، ولايزال عدد من المسلحين يحاولون التسلل إلينا من الجانب السوري. نشكر قيادة الجيش اللبناني على جهودها الكبيرة التي أعادت الأمان إلى منطقتنا، واستعادت السيطرة على هذه الأرض".
وأضاف: "هذه منطقة حدودية، وتفصلنا عن الأراضي السورية ساقية تُعتبر حداً طبيعياً، لكن لا تكفي وحدها لضبط الوضع. نُناشد تعزيز الوجود العسكري اللبناني لضبط الحدود بشكل كامل، خصوصاً بعد سقوط شهيدَين في الفترة الماضية".
واشار الى "اننا نعيش في منطقة لبنانية منكوبة ومحرومة منذ زمن، وسكانها لبنانيون يستحقون الأمان والخدمات. نُوجّه نداءً إلى فخامة رئيسي الجمهورية والحكومة الالتفات إلى هذه المنطقة، والتعامل معها كجزء لا يتجزأ من الوطن".
حالة حوش السيّد علي ليست مجرد خسارة مادية، بل هي جرح عميق في جسد الوطن، وصرخة صامتة تطالب بالالتفات إلى من دفعوا ثمناً باهظاً لموقعهم. إنها دعوة إلى تضافر الجهود واتخاذ قرار جريء يعيد الحياة إلى هذه البلدة، ويمكّن أهلها من العودة إلى ديارهم وأراضيهم. فالوطن الحقيقي لا يُقاس بمساحته، بل بقدرته على احتضان أبنائه. وحوش السيّد علي، بصمتها وصمود الجيش فيها، تذكير دائم بأن جزءاً من لبنان ينتظر عودة نبضه.