لبنان يخسر زياد الرحباني… ابنه العنيد الذي أحبّه على طريقته

كان يغيب دائماً، لكنه لطالما عاد بعد غيابه. تراه يعبر المسافة القصيرة بين رصيفي شارع الحمرا، بشنطة كتف كبيرة، وعينين تختبئان في الشارع من العيون التي عن غير قصد تلتصق به وتظل تلاحقه إلى أن يختفي، قبل أن يظهر على خشبة مسرح أو شاشة تلفزيون، بعينيه المبتسمتين، بسخريته اللاذعة.
ودائماً كان يعود في الوقت المناسب تماماً لنفي الاستنتاج بأن زياد الرحباني لم يعد لديه ما يقوله، وأنه انتهى. هكذا فعل في السنة الرابعة على سقوط الاتحاد السوفياتي. ظهر في "حوار العمر" مع الإعلامية الراحلة جيزيل خوري على الـ"أل بي سي" ليقول إن الشيوعية باقية، وإنه هنا ليبدأ من جديد. وضج البلد بابن فيروز وعاصي وهو يخرج هذا الخروج المدوي من الإذاعة والكاسيتات إلى الشاشة، وليس أي شاشة، بل تلك المحسوبة على خصومه الأيديولوجيين، وقد ذهب إلى عقر دارهم ليجادلهم، فما كان منهم إلا أن فتحوا الهواء له لحلقة ثانية أطول من الأولى وأكثر حدة، أثارت ضجة أكبر.
كم كان عمره في العام 1994؟ ثمانية وثلاثون عاماً. لو أنه اعتزل في تلك السنة، لما نساه الناس بعدها أبداً. فقد ترك لهم مسرحياته الثلاث الخالدة، يحفظونها جملة جملة، وأغنية أغنية. وترك لهم برامجه الإذاعية، وألبوماته العظيمة. وقبل كل ذلك، وبعده، كان قد قدم للناس أحلى هداياه، فيروزهم ذاتها، بلغته، بجملته الموسيقية المطلقة العذوبة، وبكلامه المحكي الذي كان أبلغ الشعر فيه خلوه من التكلف الشعري. فيروز التي قالت في الثمانينيات إنها تثق به كملحن كبير، لم تعطه ثقتها بقدر ما نافسته في التجريب وفي خفة الدم التي يروى أنه ورثها منها. لو اعتزل في العام 1994، لكان في أرشيفه لفيروز أغانٍ مثل قديش كان في ناس، وسألوني الناس، وحبيتك تنسيت النوم، وألبوم معرفتي فيك، و"كيفك إنت"، أي، ببساطة، الأغاني التي تقع الآن في أعلى لائحة الاستماع إليها، وفي أجملها، بحسب مريدي زياد، وهؤلاء ليسوا قلة، ولا من جيل دون جيل.
مثل أمه أيضاً، احترف زياد الفن ولداً، ومثلها، بدت الموهبة هبة مجانية من السماء وتلقائية، كأنهما لا يبذلان جهداً في صنع هذا الجمال. ومثلما أحب الناس فيروز لمرة ثم لم يتوبوا عن حبها بعد ذلك، أحبوا زياد. اجتمعوا على حبه ليس لأنه ابن الثنائي الأيقوني، بل لأنه لم يقدّم نفسه يوماً بصفته ابنهما، بل لطالما بدا متخوفاً من أن شهرتهما قد فرشت له طريقه إلى الفن. هي متلازمة القلق عند الموهوب، يكون أول المشككين بإنتاجه الإبداعي وأشده قسوة عليه، يظن دائماً أنه لا يستحق الثناء ولو كان صادقاً ولا يستأهل الحب ولو كان من القلب.
واللبنانيون من قلبهم أحبوا زياد الرحباني. مع أنه، على العكس من والدته المقدسة لديهم، انحاز في الحرب الأهلية للبنان دون آخر، ولفكرة ضد أخرى، وكان طرفاً مفوّهاً وأحسن ما حصل لليسار اللبناني الذي أتى إليه ابن العائلة الملكية فنياً ليصير صوته الأعلى والأكثر تأثيراً. ومع أنه جاهر بالعداء للمعسكر المقابل، لم يستطع هذا كرهه، أولاً لأن زياد الرحباني كان إلى تلك الدرجة صادقاً في انتمائه إلى شيوعيته، وثانياً لأنه لم ينتم يوماً إلى طائفة، وثالثاً لأن من المستحيل أن يكره لبناني الأستاذ رشيد، أو الأستاذ نور، أو زكريا، أو أياً من الشخصيات التي لعبها على المسرح، والتي لم يكن فيها يوماً يسارياً أو يمينياً، بل لبناني عادي سحقته عبثية الحرب ومتاهات المجتمع اللبناني.
من المستحيل ألا نقع في حب من يضحكنا. والساخر بالفطرة كان مثال الشخص المهضوم الذي يطيب للناس الاستماع إليه، مع أنه لم يكن يوماً كوميدياً ولم يقدم نفسه بصفته كذلك. كان صاحب مشروع لا يمكن اختزاله بوصفه فنياً او اجتماعيا أو سياسياً. ربما يمكن تسميته باسمه، "زيادياً". مشروع عنيد في نقده القاسي للشعب اللبناني ولعيوبه العامة، الطائفية منها والاجتماعية. وبالعناد نفسه، حارب الاستسهال السياسي، حتى لو أتى من الأخوين الرحباني. حارب الاختباء خلف التورية والامعان في الخيال والانفصال عن الزمان والمكان وفي عدم تسمية الأشياء بأسمائها وخلف "الغريب" وخلف "حب اللبناني المطلق لأخيه اللبناني". وكان لامعاً إلى درجة أن خطابه السياسي المباشر هذا لم يكن للحظة رديئاً، لأنه عرف كيف يغنيه وكيف يمسرحه، وقد جذب إليه رفيقات ورفاق عمل، موسيقيين وممثلين ومغنين، مؤمنين به وموهوبين مثله، خلدّوا عباراته وجعلوا الأجيال تتعاقب على تردادها، عن قصد حيناً، وعن غير قصد أحياناً، وقد اندمجت لغته، من حيث لا ندري، بمفرداتنا وحكينا اليومي.
كان ليكمل دائرة المجد في العام 1994 لو اعتزل حينها. كان ليكمل تلك الدائرة في أي لحظة يقرر الخروج من الكادر. لحسن حظنا أنه لم يفعل، وإلا لخسرنا كل ما سيعطيه في العقدين الأخيرين لفيروز، وخسرنا عودته إلى مسرح البيكاديللي، ومهرجانات بيت الدين، وحفلاته. لخسرنا وجوده نفسه، كما هو، بمهارته في الوضوح في الموقف وعدم خوفه من قول رأيه كما هو، مهما كان مستفزاً، ما دام يؤمن به، وما دام لا ينافق ولا يهادن.
لكننا خسرناه. انسحب إلى موته بعد غياب طويل تاركاً في كل واحد فينا ركناً خاوياً في ناحية من القلب. هو الحب الذي من الله، أعطيناه له على اختلافنا واختلافاتنا. زياد الرحباني الذي كان درساً أولياً لا بد منه لمطلق مراهق كي يخرج من جماعته ويصير فرداً، هو نفسه زياد الذي شكّل الذائقة الفنية لأجيال متعاقبة، وشكّل رؤيتها للبنان غير الذي فرضته جماعاتها عليها. لبنان محني الظهر بأثقاله التي لا تحتمل، وبعنفه العميق، لكنه أيضاً لبنان الرقيق الذي بكى من طرفه إلى طرفه، ابنه الكبير، وأحد أهم أسبابه القليلة لفخره بنفسه.
لن يعود هذه المرة على خلاف ما تعوّدنا منه. خسرنا زياد الرحباني، وهي خسارة شخصية حميمة لكل واحد فينا. غيابه حزننا اللبناني العام، محبين ومريدين وأصدقاء ورفاق. لكنه، قبل ذلك حزن خاص في عائلته، وحزن صافٍ في قلب أمه، حبيبتنا حبيبتنا، نخاف حتى من سؤالها أي حال أنتِ فيه.