فقدوا منازلهم وينتظرون التعويضات الموعودة... من يُنصف النازحين اللبنانيين في ظلّ فشل إدارة الأزمات؟

"لم نتلقَ مساعدات من أحد، ولا حتى وعوداً لإصلاح الأضرار أو المساعدة الجزئية". هكذا علت صرخة نازحين من منازلهم بعد العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان، والذي أدى لتدمير العديد من الوحدات السكنية خلال حوالي سنة من الحرب، والجزء الأكبر دمّر بعد تكثيف العدوان منذ أيلول (سبتمبر) هذا العام.
بعض النازحين لا يزالون عالقين في مراكز الإيواء، أو في الأماكن التي نزحوا إليها، والأسباب كثيرة. أوّلها أن منازلهم دُمّرت بشكل كامل، أو أنها تضررت بشكل كبير جعلها غير صالحة للسكن إلى حين ترميمها وإعادة تأهيلها، أو أنها تقع داخل مناطق حدودية متقدمة تشملها التحذيرات الإسرائيلية بعدم الاقتراب.
وهكذا ينتظر كثيرون مصيرهم المتعلق بسرعة تحرّك الدولة لتنفيذ خطة إعادة إعمار، مع تشكيك في ما إذا كانت ثمة خطة فعلاً، مع أحاديث متزايدة عن سوء توزيع التعويضات في حال البدء بتنفيذها.
انتظار التعويضات
نزحت آية من منزلها الواقع في محلة تحويطة الغدير في الضاحية الجنوبية لبيروت إلى بلدتها في الفاكهة البقاعية منذ بداية التحذيرات في الضاحية، وبقي زوجها في بيروت لممارسة عمله اليومي. كان يتفقّد حال المنزل أسبوعياً، حتى وجده متضرّراً بقوة بعد قصف فرع القرض الحسن، المؤسسة المالية التابعة لـ"حزب الله" في تلك المنطقة. وتقول آية لـ"النهار": "بالإضافة إلى تحطّم الزجاج في المنزل، صار الباب الأساسي مخلوعاً، وبالتالي لم يبقَ المنزل صالحاً للسكن. كذلك تضررت السيارة بشكل كبير وتحتاج إلى مبلغ طائل لإصلاحها".
وتلف آية إلى أن "حزب الله" طلب منهم العودة إلى المنازل من خلال رسائل نصية ولكن دون إصلاح الأضرار التي لحقت به، وأن من يريد البدء بورشة الإصلاح عليه تصوير الأضرار سابقاً ثم بعد إكمال العملية، على أن يجهّز الفواتير اللازمة لعملية التعويض المادي. وتقول: "أبلغونا بأنهم قادمون، فوضعنا النايلون كي نستطيع النوم في المنزل لعدة أيام بانتظار بدء التصليحات، وكذلك تعهّدوا بإصلاح السيارة".
أشخاص يمشون في الظلام وسط الدمار في حي حارة حريك في الضاحية الجنوبية لبيروت (2 ك1 2024، أ ف ب).
وضع أصعب من عام 2006
بحسب الباحث في "الدولية للمعلومات" محمد شمس الدين، فإن الدولة اللبنانية غير قادرة على تحمل تكلفة إعادة الإعمار وأعبائها، نظراً إلى الوضع الحالي للمالية العامة المنهارة في لبنان. ويقول لـ"النهار": "كانت الدولةعاجزة عن تحمل تكاليف النزوح السكاني خلال الأزمات السابقة، فكيف يمكنها تحمل أعباء إعادة الإعمار الآن؟ لقد كانت تعتمد على المساعدات الخارجية، وما أنفقته حتى الآن لا يتعدى بضعة ملايين من الدولارات، وهي غير قادرة على تقديم المزيد".
وعن الفرق بين هذا العام وحرب تموز (يوليو) عام 2006 يقول: "خلال حرب عام 2006، شهد لبنان تدفقاً كبيراً للمساعدات الدولية تجاوز الاحتياجات الفعلية. أما في الحرب الأخيرة، فإن المساعدات وصلت لتغطية 25% فقط من الحاجات حتى الآن".
ويضيف: "الدول التي كانت سابقا داعمة، مثل السعودية والكويت والإمارات، تبدو مترددة، باستثناء قطر وإيران اللتين أعلنتا استعدادهما للمساهمة. لكن يبقى المشهد ضبابيا بانتظار بلورة المشاورات الدولية بشأن إعادة الإعمار".
وعن حجم الدمار هذه السنة واختلافه عن السابق، يقول إن الخطوة الثانية تتمثل في إجراء مسوحات دقيقة لتقدير حجم الأضرار. ففي الحرب الأخيرة التي شهدها لبنان هذا العام، قدرت الخسائر المباشرة في القطاعات المختلفة (البنية التحتية، المنازل، المؤسسات الصناعية والتجارية، القطاع الزراعي، القطاع البيئي، كلفة إزالة الأنقاض) بحوالي 8 مليارات دولار، منها 5.2 مليارات دولار خسائر المنازل فقط، فهناك نحو 48 ألف وحدة سكنية مدمرة منها 9000 في الضاحية، 7000 في البقاع ووحدات أخرى في الجنوب، ونحو 32 ألف وحدة مدمّرة جزئياً و148 ألف وحدة تعاني من أضرار بسيطة.
وللمقارنة، بلغت تكلفة حرب عام 2006 حوالي 4 مليارات دولار، أي أن الحرب الحالية تضاعف تقريبا حجم الخسائر.
سيارات تمر بجوار ابنية متضررة أو مدمرة من جراء الغارات الإسرائيلية في حي السلم بالضاحية الجنوبية لبيروت (2 ك1 2024، أ ف ب).
وبحسب تقرير الهيئة العليا للإغاثة، فإن حجم الهبات والقروض الميسرة من الدول والمؤسسات التي حوّلت إلى لبنان منذ تموز 2006 وحتى أيار (مايو) 2007 بلغ 1178 مليون دولار. إلا أن هذه السنة وحتى الآن لم يعلن بعد عن حجم المساعدات الفعلية التي يمكن أن تتلقاها الحكومة، مع العلم أن الاقتصاد اللبناني كان يعاني، لكن لم يكن منهاراً بشكل كبير كما الآن، وبالتالي كانت الثقة أكبر بقدرة المؤسسات على إعادة الإعمار. كما أن الوضع السياسي اللبناني كان أقل تعقيداً مقارنة مع وضعه ووضع "حزب الله" الآن.
والأهم كذلك العقوبات الدولية المفروضة على إيران و"حزب الله" منذ عام 2006 والتي أثرت بشكل كبير على الوضع الاقتصادي داخل البلاد والتحويلات المالية مع الحزب.
بعد حرب تموز 2006، وزّع "حزب الله" مبلغ 12 ألف دولار على كل عائلة ساكنة في أكثر من 15 ألف وحدة سكنية تهدمت جراء العدوان الإسرائيلي الذي استمر أكثر من شهر، لتستطيع استئجار مسكن لمدة سنة وشراء أثاث جديد.
تصليح بأموال شخصية... وضياع كلي
"بقينا في منزلنا الكامن في محلة جديدة الفاكهة التي اعتبرت آمنة إلى حد ما في بداية الحرب، اذ لم تتعرض لأي غارات مباشرة رغم انتمائها إلى محافظة بعلبك الهرمل"، تشرح رنين غنام لـ"النهار".
وتضيف: "إلا أننا وفي يوم من أيام العدوان وعندما كانت أصوات الغارات تحيط بنا من كل اتجاه، أغارت الطائرت الحربية الإسرائيلية على سيارة بالقرب من منزلنا، عندها غادرنا إلى منزل أقاربنا في بلدة الفاكهة، وبعد دقائق حصلت غارة قريبة جداً من منزلنا، وبالطبع تضرّر بشكل كبير، لدرجة أننا اضطررنا إلى إصلاح الأضرار قبل العودة إلى حياتنا الطبيعية، خصوصاً خلال البرد القارس الذي نعاني منه في منطقتنا. أصلحنا الأضرار وعدنا ولكننا حتى الآن لم نتلقَ أي اتصال لسؤالنا عمّا تكبّدناه، ولا حتى رسالة تعد بالتعويض عما لحق بنا، لا جهات حكومية ولا غير حكومية، مع أننا تأكدنا من تلقي جيراننا مساعدة مخصصة للتعويض وبدأوا استعماله".
محمد خليل فقد منزله كاملاً في زوطر الشرقيةبقضاءالنبطية، شرح لـ"النهار" أن منزله دمّر دماراً كلياً لكنه حتى الآن لم يتلقَ أي اتصال من أية جهة رسمية وغير رسمية، مؤكداً أن الصورة بالنسبة إليه كنازح غير واضحة حتى الآن، بالنسبة إلى تعويضه عما خسره. وعن الناس الذين فقدوا منازلهم من معارفه يؤكّد أن لا أحد منهم تلقى مساعدات مباشرة والوعود حتى الآن "كلام وليس أكثر".
منزل النازح محمد خليل في زوطر الشرقية
من سيتولى إعادة الإعمار؟
يؤكّد شمس الدين أن المهم هو تحديد الجهة المنفذة لبداية التطبيق الفعلي، و"من غير المعروف حتى الآن هل يقوم حزب الله بذلك عبر هيئات خاصة مثل مشروع "وعد" الذي أُطلق عام 2006 أم يقوم به مجلس الجنوب أو الهيئة العليا للإغاثة، أم تنشأ هيئة مشتركة لبنانية- دولية لهذا الغرض؟".
وتحدّث عن أبرز التحديات التي تواجه عملية الإعمار في لبنان وهي الفساد والمحسوبية وتوزيع التعويضات بشكل غير عادل، وشمول أشخاص غير متضررين بالمساعدات، كما حدث مع هيئات مثل مجلس الجنوب وصندوق المهجرين، إضافة لتحديد الأولويات، وإعطاء الأولوية لأصحاب المنازل المدمرة الذين يعتمدون عليها كمساكن أساسية، ثم الانتقال إلى المراحل الأخرى. ويلفت كذلك إلى "أهمية الاستقرار الأمني والسياسي، فإعادة الإعمار بدون ضمان استقرار طويل الأمد قد تؤدي إلى تكرار السيناريوهات المدمرة".
تعهد حزب الله
في خطاب الأمين العام لـ"حزب الله" نعيم قاسم، تطرّق إلى مسألة التعويضات عن النازحين، قائلا إن الحزب سيعطي مبلغ 8000 آلاف دولار لشراء أثاث للشخص الذي تهدّم منزله بشكل كلي والذي يعتبر مسكنا اساسيا بالنسبة إليه، وإذا كان يسكن في الضاحية يعطى 6000 دولار كايجار لسنة واحدة أي بمعدل 500 دولار في الشهر لمدة سنة. وأما إذا كان يسكن خارج بيروت والضاحية فيعطى 4000 دولار إيجار سنة واحدة.
وشكر قاسم الجمهورية الإسلامية الإيرانية لأن “المبلغ بأغلبيته سيكون تقدمة منها لمصلحة الإيواء، وهذه كلها ضمن عناوين تفصيلية جزئية ستكون موجودة على موقع إلكتروني وأيضا ستكون موجودة عند اللجان المتخصصة التي ستنتشر في المناطق المختلفة، وسيُعلن عنها بالأساليب المناسبة على المستوى الإعلامي".
“لم نتلق شيئاً”
في الضاحية الجنوبية لبيروت وتحديداً في منطقة حارة حريك، ينتظر إسحق صبرا إصلاح منزله الذي تضرّر بفعل غارات ضربت منازل مجاورة. ويقول لـ"النهار" إن لجنة من "حزب الله" كشفت على المبنى بعد أيام من وقف إطلاق النار، ووعدوه بإصلاح الأضرار تباعاً، إلا أنهم حتى الآن لم يدخلوا إلى منزله وبالتالي لم يتلقّ شيئاً: "سننتظر لنرى إذا ما كان التعويض سيكون على قدر الأضرار".
اسحق صبرا أمام منزله المتضرّر
في ظل هذه الانتظارات، تحدّث رئيس بلدية برج البراجنة عاطف منصور لـ”النهار” شارحاً آلية العمل التي بدأتها البلدية فعلاً بالتنسيق مع لجان "حزب الله" المتخصصة، مؤكّداً أن الإصلاحات ستتم بأموال إعادة الإعمار التي أعلن عنها "حزب الله" لا بأموال بلدية، مؤكّداً أن البلدية تتلقى الشكاوى باستمرار وتعمل على إصلاح الأضرار للجميع دون استثناء، وهو ما يحتاج المزيد من الوقت وربما يصل إلى أشهر من العمل، و"على المتضررين أن ينتظروا أدوارهم"، بحسب قوله.
لطالما كان ملف التعويضات للمتضررين من الحروب التي مرّت بلبنان شاهداً على خلل بنيوي حقيقي في إدارة الأزمات، فالسياسات المتبعة لإعادة الإعمار وتعويض المتضررين غالبا ما صطدم بجدران البيروقراطية، الفساد، والتسييس، مما يترك آلاف الأسر في مواجهة مصير مجهول، في وقت تبقى العدالة الاجتماعية مطلبا بعيد المنال، خصوصاً أن التجارب الماضية لم تكن نماذج جيدة، فكيف إذا كان البلد هذه المرة يرزح تحت وطأة أزمات عميقة وصعبة ومزمنة؟