تحقيقات 05-02-2025 | 09:00

أول حالة تبن لطفلة فلسطينية يتمتها الحرب في غزة... "جنة" حلم تحقق وآلاف مثلها ينتظرون

وجدت "جنة" نفسها في مؤسسة تحتضن الأطفال الأيتام، ولم تكن تحمل اسماً بعدُ عندما قرّر الزوجان رامي العروقي وزوجته إيمان تبنّيها لتُضفي على حياتهما الفرح والأمل والطفولة المفقودة
أول حالة تبن لطفلة فلسطينية يتمتها الحرب في غزة... "جنة" حلم تحقق وآلاف مثلها ينتظرون
يد رامي تمسك بيد جنة. (الصورة عن الفايسبوك رامي العروقي)
Smaller Bigger

"اسمها جنة" تلك الطفلة الصغيرة التي لا يتعدّى عمرها الأشهر، وأصبحت تحمل اسماً جميلاً في دولة شهدت على فظائع وجرائم الحرب منذ أكثر من سنة. فقدت "جنة" كلّ عائلتها في غزة، ولم يبقَ منها أحد، وبقيت وحدها تصارع الحياة بضحكة طفولية وجسد صغير.

 

وجدت "جنة" نفسها في مؤسسة تحتضن الأطفال الأيتام، ولم تكن تحمل اسماً بعدُ عندما قرّر الزوجان رامي العروقي وزوجته إيمان تبنّيها لتُضفي على حياتهما الفرح والأمل والطفولة المفقودة. كان اسم "جنة" بديهياً بالنسبة إليهما، فهي وفق ما يصفها رامي في حديثه لـ"النهار" "جنّة على الأرض، وحلم طال انتظاره".

 

يعترف رامي بأنه "منذ الأيام الأولى للحرب وأنا أحاول متابعة مصير الأطفال الصغار. كنتُ أحاول جاهداً البحث عن أيّ طفل خسر كلّ عائلته في المجازر الإسرائيلية، وأتابع كلّ أثر لأيّ طفل يتيم ووحيد. كان قلبي يبحث عمّا أفتقده بشدّة، وكنتُ أتفقد مسار كلّ طفل علّني أحظى بفرصة أن أكون حاضناً لأيّ منهم، وأن أعيش الأبوة بمنظار مختلف".

 

الحرب قاسية والطفولة أصبحت مبتورة ومقطّعة الأوصال، ولم يكن سهلاً على رامي أن يمضي في طريق التبنّي في عالم يعصف بالقتل والدمار والموت. كان يعرف أن ما يبحث عنه معقّد وشائك، لا سيما أنّه يريد تبنّي طفل خسر كلّ عائلته، خصوصاً أن ثقافة التربية في غزة شبيهة بلبنان والمنطقة حيث يقوم الأقارب بالتكفّل في تربية الطفل في حال وفاة الوالدين.

 

 

رامي العروقي والطفلة جنة (النهار) 

 

 

البحث عن أمل وسط الموت

هكذا انطلق الزوجان رامي وإيمان في رحلة بحثهما، وكانا يبحثان عن الضوء في نفق مظلم، وعن أمل في أرض مملؤة بالقنابل والغدر، وعن الحياة وسط الموت والقتل. وكان الوضع في غزة يزداد قساوة وظلماً، وكان رامي يغوص أكثر في رحلته، لا سيما بعد استشهاد 7 رضع نتيجة البرد القارس والظروف القاسية.

يروي رامي أنه "بدل أن تعيش الطفلة جنة في خيمة كما هي حال كثيرين من الأطفال في غزة، فإنه يمكنها أن تعيش في منزلنا الدافىء التي ستزيّنه فرحاً وحبّاً وحياةً. وبالفعل، تواصلنا مع الوزارة وإحدى المؤسسات حيث كانت تتواجد جنة، بعد أن فقدت كل عائلتها، وكان هناك جهد كبير ومساع متواصلة لتحقيق حلم التبنّي، وخضعنا لمسار طويل للتأكّد من أننا أهل للمسؤولية والالتزام. وهكذا حصلنا على الموافقة بأخذ "جنة" لتُصبح ابنتنا التي أنعم علينا الله فيها بعد كلّ المآسي في غزة".

 

في الوقت الحالي، لا يعتبر  رامي الوصيّ القانونيّ الوحيد على "جنة" في انتظار إتمام كلّ المعاملات الرسمية وتسجيلها بشكل رسمي. ومع ذلك، لا شيء يُضاهي سعادة الزوجين بعد أن دخلت "جنة" إلى منزلهما المتعطش لطفولة مفقودة نتيجة عدم قدرتهما على الإنجاب.

 

الطفلة جنة (النهار)

 

بعد 23 عاماً على زواجهما، جاءت "جنة" كحلم جميل على حياة رامي وإيمان، ولم يكن قد مضى على وجودها معهما أكثر من أسبوعين، إلا أنها استطاعت منذ اللحظة الأولى أن تبثّ أجمل المشاعر برغم قساوة ما شهدته غزة في حربها.

 

يعترف رامي بأن "نيتنا كانت أن نعيش هذه المشاعر مع طفل فقد كلّ عائلته، وأن نعوض له كلّ ما خسره. وصدقاً لو أعطوني طفلاً آخر لكنتُ سعيداً أكثر. لأنه مَن حُرم من الأطفال يعرف تماماً قيمة هذا العطاء وروعة هذا الإحساس".

 

"نفسي أعيش إلها"

لا يخفي رامي خوفه في البداية من قرار التبنّي. برأيه "هذا الطفل أمانة، والمسؤولية كبيرة، لكن بعد أن أصبحت جنة في منزلنا اختلف كل شيء، وما نعيشه من فرح وحب وعطاء لا يمكن وصفه بكلمات. لقد أصبحتُ أخاف على نفسي خوفاً على جنة، ولم أكن أخاف من الموت والصواريخ. ولكن بعد أن أصبحت جنة معنا، فكلّ ما كنت أسمع صاروخاً أقول "إن شاء الله ما يكون عنّا"".

 

يقولها بصراحة "نفسي أعيش إلها صدقاً، وأن تنعم بأيام أكثر فرحاً وأملاً". ويتوجّه برسالة إلى كل شخص "بتكفل يتيم. نحن بحاجة إلى هذه الخطوة الإنسانية بعد كلّ ما مررنا به في غزة، وهذه الكفالة ستضمن للطفل أن يعيش بكرامة".

 

ما زال تسجيل "جنة" قيد المتابعة والدرس. لم يحصلا بعد على أيّ أوراق رسميّة لتأكيد هذا التبنّي الذي يعتبر الأول في قطاع غزة بعد الحرب. ويشرح رامي "بما أننا كنّا في ظروف حرب قاسية، فالمؤسسات تحتاج إلى النهوض من جديد، وبالتالي قد يستغرق الموضوع بعض الوقت لتسجيلها رسمياً لتصبح جنة على كنيتي".

 

كانت قصة رامي محفّزاً لمحيطه، حيث تسعى عائلات أخرى إلى اتّباع خطوته في التبنّي، وقد باشر البعض بالاستفسار عن كيفيّة تقديم الأوراق بهدف التبنّي. 

 

أطفال في غزة (أ.ف.ب) 

 

سيلا لن تبقى لوحدها

في غزة، قصص كثيرة لطفولة كُتب عليها أن تختبر الموت واليتم والقهر والوجع، ولاطفال كُتب عليهم أن "يكبروا قبل أوانهم"، وأن يشهدوا على مجازر وفظائع لا يستوعبها عقل. يعتبر رامي أوّل شخص ينجح في تبنّي طفلة في غزة. لكن عائلات أخرى اتّخذت على عاتقها تربية أحد أطفال العائلة بعد أن خسروا ذويهم، ومن بينهم الطفلة سيلا أبو عقلين، ابنة الخمس سنوات، التي فقدت كلّ عائلتها خلال خرب غزة، وقرّرت ابنة خالة أمّها العزباء، وتُدعى آمنة الغفري أن تتكفّل بتربيتها.

 

تتحدث هذه الطفلة عن خسارتها قائلة: "توفيت كل عائلتي شقيقاتي صبا وليلي وفرح وأمي وأبي. كنّا نائمين عندما قصفت إسرائيل وسقط الدار علينا، وبقيتُ تحت الردم قبل أن يتم إنقاذي ونقلي إلى المستشفى. خسرتُ كل أفراد عائلتي وخسرتُ ساقي التي بُترت".

 

تنتظر سيلا اليوم لتركيب طرف اصطناعي حتى تستعيد حياتها كلّ ما تتمنّاه وفق ما تقول "أن ألعب في الخارج مع باقي الأطفال. اشتقت أمشي على رجليّ وألعب".

 

في قلب سيلا غصة كبيرة. لا شيء يعوّض خسارتها، وتعترف بكلماتها البريئة والصادقة: "لقد اشتقتُ إلى أمّي كثيراً. كنتُ أتمنّى لو كانت معي هنا".

 

لكن آمنة الغفري، قريبة والدة سيلا، قررت في المقابل أن تتكفّل تربيتها، وأن تهتمّ بها، بل أن تكون لها الحضن الدافىء، بعد أن وجدت سيلا نفسها الناجية الوحيدة من عائلتها.

 

تعرف آمنة جيداً أن حياة سيلا تغيّرت، وأن لا شيء سيعود كما كان سابقاً. ومع ذلك، تتمنى أن "يساعد الطرف الاصطناعي في استعادة حركتها في المشي واللعب كما سائر الأطفال. تشعر بالمعاناة عندما ترى الأطفال يلعبون في الخارج فيما هي غير قادرة على ذلك. لا تريد سوى أن تتعلم وتلعب وتمشي. بات هذا حلمها اليوم".

 

مضت سيلا في رحلة علاجها بدءاً من العلاج الطبيعي والفيزيائي وصولاً إلى علاج ما قبل تركيب الطرف الاصطناعي.

 

لا تخفي آمنة أن المعاناة الحقيقية كانت في البداية "عندما كانت تطالب بوالدتها ووالدها. كان صعباً عليها تقبّل أنهم استشهدوا جميعاً. ولكنها مع الوقت بدأت تتأقلم مع فكرة استشهاد عائلتها، واليوم تعرف أنهم جميعاً في الجنة. لم يكن سهلاً عليها أن تختبر كلّ هذا الوجع والفقدان، ولكن الله كما نقول "بصبّر الواحد"، والحمدلله اليوم عيون سيلا مشخّصة على تركيب طرف اصطناعي للانطلاق مجدداً في الحياة".

 

حياة الأطفال في غزة ( أ.ف.ب)

 

إحصاءات متفاوتة وغير دقيقة

وفقاً لبيانات الأمم المتحدة، يقدّر عدد الأطفال المنفصلين عن ذويهم في غزة بأكثر من 17 ألف طفل، في حين أفادت وزارة الصحة في غزة بأن 35 ألف طفل فقدوا والديهم أو أحدهما خلال عام، ما بين 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 ونفس اليوم والشهر من عام 2024.

 

تتباين الإحصاءات المتعلّقة بالعدد الفعليّ للأطفال الأيتام في غزة، حيث تُقدَّر الأرقام عددهم بما بين 17 ألفًا و35 ألف طفل. ونظراً إلى الصعوبات الراهنة في إجراء إحصاء دقيق، تظلّ البيانات المتداولة غير موثوقة، مما يجعل الصورة العامة حول واقع الطفولة في غزة غير واضحة.

 

وهذا ما يؤكده إبراهيم أرشي، مسؤول الحماية الاجتماعية في مؤسسة هيئة الإغاثة الإنسانية التركية في شمالي غزة، حيث يشير إلى غياب جهة رسمية مختصّة بمتابعة هذا الإحصاء، بالإضافة إلى موجات النزوح التي أدّت إلى تغيّر أماكن السكن، إذ فقدت بعض العائلات بالكامل في الأحداث الجارية، تاركة الأطفال الأيتام من دون تسجيل رسمي. ونتيجة لذلك، تبقى جميع الإحصاءات المتداولة غير دقيقة، وتعكس تقديرات تقريبية أكثر من كونها أرقاماً موثوقة.

 

أما في ما يتعلق بحالة تبنّي الأطفال الأيتام من داخل غزة أو من دول الجوار، فيوضح أرشي بأن التبني عبر الجهات الرسمية غير متاح حاليًا، إذ يقتصر الأمر على مبادرات فردية يتبناها بعض الأشخاص لرعاية الأطفال، الذين فقدوا أسرهم بالكامل. ويؤكد أنه تم توثيق حالة تبنٍّ واحدة لزوجين غير قادرين على الإنجاب، إلا أن التبني المنظّم من خلال مؤسسات رسمية لا يزال غير موجود في الوقت الراهن.

 

ارتفاع أعداد الأيتام أضعافاً

يستشهد أرشي بتجربة الجمعية التي يعمل فيها، وهي هيئة الإغاثة الإنسانية التركية (IHH)، ويقول إن عدد الأيتام المكفولين قبل الحرب كان يُقدَّر بحوالي 8 آلاف طفل، في حين تتراوح التقديرات الحالية بين 18 ألفًا و38 ألفًا، مما يشير إلى تضاعف العدد عمّا كان عليه في السابق.

قبل اندلاع الحرب، كانت هناك أربع مؤسّسات في غزة تُعنى برعاية الأيتام، إلا أنها اليوم، وفقًا لما يُشير إليه أرشي، غير قادرة على أداء دورها. ويعود ذلك إلى تعرّض مباني دور الرعاية للدمار جراء القصف الإسرائيلي أو تحوّلها إلى ملاجئ تستوعب النازحين الذين فرّوا من مناطق القصف.

 

سيُشكل هذا الواقع المستجدّ تحدّياً كبيراً في المرحلة المقبلة، إذ سيواجه الأيتام العائدون صعوبة في إيجاد أماكن تأويهم، في ظلّ الاكتظاظ الناجم عن وجود النازحين الذين فقدوا منازلهم نتيجة الحرب.

 

أما القضية الثانية التي تثير قلق أرشي والمعنيين برعاية الأيتام، فهي مسألة كفالة هؤلاء الأطفال وسط العدد الكبير الذي خلّفته الحرب، إذ يُشكل نقص التمويل، وشُح الموارد، تحدّياً خطيراً قد يؤثر بشكل مباشر على توفير الاحتياجات الأساسية لهذه الفئة الأكثر هشاشة.

 

وفي هذا السياق، يوجه أرشي نداءً إلى جميع المؤسسات الدولية المعنية برعاية الأيتام، داعياً إياها إلى تقديم الدعم لأيتام غزة الذين يواجهون ظروفاً بالغة القسوة، ويحتاجون إلى رعاية مستدامة تضمن لهم حياة كريمة ومستقبلاً أكثر استقراراً.


 

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

شمال إفريقيا 10/6/2025 7:23:00 AM
فرض طوق أمني بالمنطقة ونقل الجثتين إلى المشرحة.
النهار تتحقق 10/6/2025 11:04:00 AM
ابتسامات عريضة أضاءت القسمات. فيديو للشيخ أحمد الأسير والمغني فضل شاكر انتشر في وسائل التواصل خلال الساعات الماضية، وتقصّت "النّهار" صحّته. 
لبنان 10/6/2025 11:37:00 PM
افادت معلومات أن الإشكال بدأ على خلفية تتعلق بـ "نزيل في فندق قيد الإنشاء تحت السن القانوني في المنطقة".