رمضان في الأراضي الفلسطينية في ظل احتدام الحرب: الاقتصاد على حافة الانهيار

يختلف شهر رمضان المبارك هذا العام عن الأعوام الماضية، حتى خلال الحرب، إذ تشهد الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتحديداً في مدن الشمال، عملية عسكرية تحت مسمى "الأسوار الحديدية" منذ أكثر من 45 يوماً، تسببت بتهجير ما يفوق 40 ألف فلسطيني من مخيمات جنين وطولكرم ونور شمس، عائلات فلسطينية خسرت بيوتها ومصادر رزقها وكل ما تملك.
إضافة إلى ذلك، فُرض أمر واقع جديد على الأرض بقطع أوصال الضفة الغربية من خلال منع الوصول إلى المناطق الزراعية، ومناطق (سي) القريبة من المستوطنات، ما قد يحولها سياسة دائمة.
لقد تعمدت سلطات الاحتلال تعميق التقسيم والتمزيق الجغرافي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي، بين مدن الضفة الغربية والقدس منذ خطة يغال ألون عام 1967، وصولاً إلى السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. وأحكمت الهيمنة على التنقل بين المحافظات، وكانت جاهزة لسيناريو العزل والفصل والتحكم بالحركة والتنقل وضبطهما، اذ تم عزل المحافظات والمدن والقرى عن بعضها البعض، جغرافياً واجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، ودفعت بالفلسطينيين الى مراكز المدن التي تقع في مناطق (أي).
مسلمون فلسطينيون ينتظرون تحت المطر لعبور نقطة تفتيش للجيش الإسرائيلي في قلنديا بالضفة الغربية المحتلة، لحضور صلاة الجمعة الأولى من شهر رمضان في المسجد الأقصى في القدس الشرقية (7 آذار 2025، أ ف ب).
رجل فلسطيني يبرز هويته عند نقطة تفتيش للجيش الإسرائيلي في بيت لحم بالضفة الغربية المحتلة، بينما يتجه مسلمون إلى مجمع المسجد الأقصى في القدس الشرقية لحضور صلاة الجمعة الأولى من شهر رمضان (7 آذار 2025، أ ف ب).
كانتونات منفصلة
نحو 900 حاجز عسكري تنتشر في مختلف أنحاء الضفة الغربية، بحسب التقارير الفلسطينية الرسمية، وتتنوع بين الثابتة والمتنقلة، وتُستخدم كأداة لتقييد حرية حركة الفلسطينيين وعزل المدن والقرى عن بعضها البعض وحولها كانتونات. إضافة إلى ذلك، تُستخدم البوابات الحديدية كوسيلة أخرى للتحكم في حياة السكان، إذ تُغلق بشكل متكرر ومن دون إنذار مسبق، ما يعقد حياة الفلسطينيين ويزيد من معاناتهم اليومية.
ليست الحواجز العسكرية مجرد نقاط تفتيش، بل هي أدوات تعزز سياسة الفصل العنصري، وتفرض قيوداً صارمة على حركة الفلسطينيين، وتجعل التنقل أمراً بالغ الصعوبة ويستغرق أوقاتاً طويلة قد تصل إلى ساعات عدة من الانتظار .
إضافة إلى ذلك، يستخدم جيش الاحتلال الإسرائيلي الحواجز "الطيّارة" الفجائية وغير الثابتة، التي تُنصب لتضييق الخناق على السكان، ما يجعل التنقل عملية محفوفة بالمخاطر والإهانات.
كل ذلك يتسبب بتعطيل الحركة اليومية، وبأزمات إنسانية ضربت قطاع النقل بالإضافة إلى القطاعات الخدماتية الأساسية في حياة الفلسطيني، وأثرت بشكل سلبي على الجانب الاجتماعي، اذ تحرم الحواجز الأهالي والعائلات من التواصل مع بعضهم البعض، وتخلق فجوة في العلاقات الاجتماعية.
وانعكس ذلك بشكل مباشر على الاقتصاد الفلسطيني المعروف أن نحو 65 بالمائة منه خدمي، مقابل القطاعات الإنتاجية الداعمة للنمو الاقتصادي، التي تشكل نحو 20% فقط من مجمله. فأضعفت الحالة الاقتصادية بشكل عام، وضربت طبقة العاملين الذين يعتمدون على الدخل اليومي، وقللت من دخول فلسطينيي القدس والداخل، وأثرت على القدرة الشرائية والتسوق.
بائع متجول يبيع الخبز في البلدة القديمة في نابلس بالضفة الغربية المحتلة خلال شهر رمضان المبارك (4 آذار 2025، أ ف ب).
رجل فلسطيني يعد الفطائر التقليدية في البلدة القديمة في نابلس بالضفة الغربية المحتلة خلال شهر رمضان المبارك (4 آذار 2025، أ ف ب).
إفطار على الحاجز
وقال محمد حنني (30 عاماً)، وهو من سكان بلدة بيت فورك قرب نابلس، ويعمل في مجال تركيب الديكورات، لـ"النهار"، إن الأوضاع الاقتصادية سيئة جداً وانعكست على عمله بشكل كبير، وبالتأكيد أثرت على الربح والخسارة بسبب ارتفاع الأسعار، ولم يعد يستطيع إدخال المواد بشكل مباشر، فيضطر إلى تنزيل البضاعة قبل الحاجز واستلامها ومن ثم نقلها، فزادت التكاليف، وأصبح الربح لا يتعدى بضعة شواقل.
منذ بداية شهر رمضان، اضطر الى الإفطار على الحاجز مرتين، فالانتظار عند الحاجز للداخل الى بلدته يمتد ساعات طويلة، لأنه يعتمد بشكل أساسي على دورية جنود الاحتلال الإسرائيلي التي تفتش، وعلى مزاج الجنود.
وروى أنه قبل يومين، استغرقه الانتظار أربع ساعات ونصف الساعة، فقام بعض أصحاب المحال التجارية بتوزيع التمر والماء والعصير على الناس. كذلك أمن أحد المطاعم وجبات إفطار للصائمين، مجاناً، بما يعكس حجم التكافل الاجتماعي خلال هذه الظروف القاسية.
وخلص إلى أن الأوضاع عند الحواجز جعلت كثيرين من أهل بلدته يمتنعون عن الخروج إلا لقضاء أشغالهم وتلبية احتياجاتهم الضرورية المستعجلة.
أشخاص يتابعون مسلسل "باب الحارة" في سيارتهم خلال الانتظار على حاجز (النهار).
ازدحام مروري على حاجز (النهار)
ازدحام مروري على حاجز (النهار)
ارتفاع جنوني للأسعار
بحسب تقرير وزارة الاقتصاد الوطني، تراجعت خلال العام 2024 معظم الأنشطة الاقتصادية في فلسطين مقارنة بالعام السابق، وسجل تراجع في مجالات الصناعة والزراعة والخدمات والتبادل التجاري، وارتفعت معدلات البطالة لتصل الى 51% بشكل عام، بواقع 35% في الضفة الغربية، مقارنة بـ12.8% قبل الحرب، إضافة إلى إرتفاع شديد بنسية الفقر.
وسبق شهر رمضان ارتفاع جنوني في أسعار اللحوم والدواجن والخضروات حيث وصل سعر كيلو الدجاج في مدينة القدس 30 شاقلاً أي نحو 10دولارات، وفي الضفة الغربية 17 شاقل اي نحو 5 دولارات، بينما وصل سعر كيلو لحم الخروف في القدس 120 شاقل أي نحو 33 دولاراً، وفي الضفة الغربية 100 شاقل اي نحو 27$، بزيادة تفوق 30% عن الأشهر الماضية، ما حرم الكثير من العائلات شراء سلة احتياجاتها الرمضانية بشكل طبيعي، وأضحى اعتمادها الغذائي على البقوليات والخضروات.
يتميز رمضان بعادات غذائية خاصة بوجبتي الإفطار والسحور، وتعد تكلفة الإفطار والسحور من أهم أوجه الإنفاق، حيث يحرص الفلسطينيون على توفير وجبات متوازنة رغم الأوضاع الاقتصادية الصعبة.
بائع متجول يبيع الخبز في البلدة القديمة في نابلس بالضفة الغربية المحتلة خلال شهر رمضان المبارك (4 آذار 2025، أ ف ب).
القاضي: لم أرَ مثل هذا الوضع من قبل
وتوجهت "النهار" إلى إبراهيم القاضي، المدير العام للإدارة العامة لحماية المستهلك في وزارة الاقتصاد الوطني الذي قال: "أعمل في وزارة الاقتصاد منذ عام 1997موظفاً، ومنذ 2013 مديراً عاماً، ولم أر مثل هذه الحالة من قبل. الكساد في الأسواق، وكمية مرتجعات تعاني منها الشركات، إتلاف المواد الغذائية والبضائع التي انتهت صلاحياتها، وحاويات مليئة بالبضائع، أحذية وملابس لم يتم فتحها أو عرضها في المحال التجارية، سابقة تحدث للمرة الأولى في السوق الفلسطينية".
وأضاف: "منذ 17 شهراً نعيش أسوأ فترة اقتصادية، بسبب حرمان العمال من العمل في الداخل. أما شركات القطاع الخاص، فقد تأثرت بنسب متفاوتة بسبب انقطاع الخدمات والسياحة، وحصول الموظفين الحكوميين على رواتبهم مقتطعة بسبب مصادرة وزير المالية الإسرائيلي أموال المقاصة. وكل ذلك يؤثر على المستهلكين وقدرتهم الشرائية التي انخفضت بين 30- 35%".
وافاد بأنه "في الأسبوع الأول من رمضان، وصلت نسبة التسوق إلى 140-145 بالمئة على كل المواد الغذائية، بسبب الالتزامات العائلية والعادات التي لا يمكن تجاوزها. واليوم لم نتعدَّ 75 بالمئة من السوق العادية".
وقال: "لو كان هناك قانون إفلاس للمستهلك، لأعلن إفلاسه من مدة. فهناك عائلات عديدة تحت خط الفقر.
نحن لا نزال نعاني تكاليف النقل العالية جداً، ولم تعد وسائل النقل كما كانت. ففي حال قمنا باستيراد بهارات من الهند وبعض أنواع المعلبات من دول شرق آسيا من الصين أو تايلاند، فإن إمكانية أن تصل الشحنات عن طريق البحر الأحمر لم تعد موجودة. فما زالت البواخر تقوم بالدوران حول رأس الرجاء الصالح".
كذلك أشار إلى أن "العمل في معبر الشيخ حسين، الذي تدخل البضائع من خلاله عن طريق الأردن منذ سبتمبر/ أيلول الماضي، لم ينتظم بعد كما يجب، بالإضافة إلى عشرات المشاكل الأخرى أغلبها النقل. فمئات الحواجز والبوابات فرضت تنزيل البضائع ونقلها في الشاحنات مرات عدة، وارتفعت نسبة المخاطرة والمخاوف على الطرق من اعتداءات المستوطنين على الناس والسيارات. وحددت النقل خلال ساعات اليوم، لا في الصباح الباكر أو المساء المتأخر، ورفعت أسعارها، ما أدى إلى ارتفاعها على المستهلك".
بائع ينتظر الزبائن في مخيم بلاطة شرق نابلس بالضفة الغربية المحتلة خلال اليوم الثاني من شهر رمضان المبارك (2 آذار 2025، أ ف ب).