4500 بلاغ لإطلاق النار ومليون و600 ألف قطعة سلاح غير مرخّصة في لبنان: الضحايا بالعشرات وضغوط سياسيّة تُعرقل المحاسبة

قضت الطفلة نايا حنا، وهي في مخيّمها الصيفي، في إحدى المدارس في الحدت في صيف 2023. لم يكن موتها قضاءً وقدراً بل رصاصة طائشة حرمتها الحياة. كان على عائلتها أن تتذوّق مرارة الفقدان بأبشع طريقة وأن تتقدّم بدعوى ضدّ مجهول لأنه ببساطة سيبقى الفاعل مجهولاً في بلد "كل مين إيدو إلو".
لم تكن الطفلة نايا حنا الضحية الأولى لظاهرة الرصاص الطائش في لبنان ولن تكون الأخيرة، والقانون الذي أقرّه مجلس النواب في عام 2016 الذي يُجرّم إطلاق عيارات نارية في الهواء ويعاقب "مطلقي النار والمفرقعات التي تؤدّي إلى الوفاة"، لم يردع المجرمين من مواصلة جنونهم من دون حسيب أو رقيب. بقي القانون قانوناً واستمرّت الظاهرة في حصد أرواح الأبرياء، وبقي الأمل معلّقاً حتّى يضرب القضاء بيد من حديد ويترفّع عن كلّ الضغوط السياسية والحزبية في هذا الملفّ.
الطفلة نايا حنا
كانت وفاة الطفلة نايا دافعاً جديداً لتقديم مشروع قانون جديد يحمل اسمها تقدّم به النائب أديب عبد المسيح. إلّا أنّه يحتاج إلى جلسة تشريعية كي يصبح نافذاً. يأمل والد نايا، جان حنا، في حديثه لـ"النهار"، أن يقرّ قانون نايا وأن يكون بداية لمحاسبة شديدة بعيداً عن الضغوطات السياسية والحزبية التي تحول دون توقيف مطلقي النار، بينما يتوعّد النائب أديب عبد المسيح "بفضح الجهات المعرقلة في حال لم يُقرّ اقتراح القانون الذي تقدّم به حتّى يعرف الشعب اللبناني من هي الجهة التي تعرقل حماية الناس من الموت".
السلاح موجود في معظم المنازل
مع كلّ حفلة جنون رصاص تخرج من هنا وهناك، ينتفض الألم والوجع الساكن في قلب عائلة حنا، لم تجفَّ دموعها بعد، ومع كلّ طلقة رصاصة تعود الحسرة إلى ذلك اليوم المشؤوم، يوم سقطت نايا ضحية الرصاص الطائش في منطقة الحدت.
يبدو أنّ مطلقي الرصاص ليسوا في حاجة إلى دافع لإطلاق جنونهم في الهواء، إذ بسبب أو من دون سبب، يتساقط الرصاص مخلّفاً وراءه ضحايا بشرية ومادية، ومع ذلك لم نسمع عن توقيف أحدهم وإنزال أشدّ العقوبات في حقّه.
وفقًا للتقديرات الأوّلية التي أوردها رئيس "حزب الخضر" اللبناني فادي أبي علام، في حديثه لـ"النهار"، يُقدَّر عدد قطع السلاح غير المرخصة في لبنان بحوالي مليون و600 ألف قطعة، مقابل 30 ألف قطعة سلاح مرخّصة. ويؤكّد أبي علام أنّ هذه الأرقام تظلّ تقديرية، إذ لا توجد إحصاءات دقيقة حول الحجم الفعلي للأسلحة المنتشرة في البلاد.
وأشار إلى أنّ السلاح بات موجوداً في معظم المنازل، ما جعل لبنان يحتلّ المرتبة التاسعة عالمياً من حيث الحيازة على السلاح. ووفقاً لمنظمة "Small Arms Survey"، يحتلّ لبنان المرتبة الثانية عربياً بمعدل 31.9 قطعة سلاح لكلّ 100 شخص، ما يعادل نحو 1.6 مليون قطعة سلاح داخل البلاد.
أمّا عن أكثر أنواع الأسلحة انتشاراً، فيوضح أبي علام أنّ المسدسات، البنادق الهجومية من طراز "كلاشنكوف"، وأسلحة الصيد هي الأكثر تداولاً، علماً أن القانون اللبناني لا يجيز ترخيص البنادق الآلية، بل يقتصر الترخيص على المسدسات فقط. ومع ذلك، تُمنح بعض تراخيص الأسلحة بطرق غير قانونية تحت مسميات مثل "تسهيل مرور" أو "رخصة حماية"، ما يثير تساؤلات حول الجهات التي تمنح هذه التراخيص، وللأسف هناك "أنواع من الرخص لا تعتبر قانونية ويتمّ تغطيتها بأمر الواقع".
ويضيف أبي علام أنّه عقب انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، جرى سحب الأسلحة الثقيلة والمتوسطة، بينما بقيت الأسلحة الخفيفة منتشرة بين الأفراد، حيث تظهر بوضوح في المناسبات والتجمعات، وغالباً ما تؤدّي إلى وقوع ضحايا بسبب الاستخدام العشوائي وغير المنضبط لها.
في المقابل، كشف مصدر مطّلع على الملفّ أنّ عدد البلاغات المسجلة لحوادث إطلاق النار بلغ 4518 اتصالاً خلال عام 2024. إلّا أنّ هذا الرقم لا يعكس بدقّة الواقع الفعلي، نظراً لوجود العديد من الحوادث التي لم يتمّ الإبلاغ عنها. وفي السياق نفسه، تمّ توقيف نحو 485 شخصاً بتهمة إطلاق النار، بغضّ النظر عن دوافعهم، والتي قد تتراوح بين خلافات فردية، أو الاحتفال بالنجاح في الامتحانات، أو مراسم التشييع، أو المناسبات السعيدة، أو حالات التعاطي والسكر.
ومع ذلك، يبقى التوقيف مشروطاً بتوفّر أدلة دامغة، إذ يؤكّد المصدر أنّ القضاء لا يمكنه محاكمة أيّ شخص بتهمة إطلاق النار ما لم تتوفّر أدلة حاسمة تثبت تورّطه، مثل تسجيلات مرئية أو صوتية. وبالتالي، حتى في حال توقيف مشتبه به، قد يتمّ الإفراج عنه لاحقاً لعدم كفاية الأدلة الحسية التي تدينه، ما يجعل بعض الحوادث غير قابلة للمعالجة نتيجة تعذّر تحديد هوية الفاعل.
تنفيذ عقوبة واحدة "بتربّي البقية"
يعترف جان حنا بأنّ "الثغرة الأساسية تكمن في السلاح المتفلّت، هذا السلاح غير الشرعي الموجود بكميات كبيرة بين الناس. وما يعزّز تنامي هذه الظاهرة تسييس القضاء وخضوعه لضغوطات كثيرة تحول دون تطبيق القانون، ولن نحقّق أيّ خطوة إصلاحية قبل أن يصبح لدينا قانون وقضاء ودولة".
هذه الفوضى المتنامية تؤكّد شيئاً واحداً "عايشين بمزرعة". لذلك يأمل والد نايا أن تنجح الحكومة الجديدة في تشريع القانون وتطبيقه وأن تقوم القوى الأمنية بمداهمة أماكن مطلقي النار، لأنّ تنفيذ عقوبة واحدة في حقّ أحدهم "ستربّي البقية" وفق قوله.
يدرك جان جيداً ألّا شيء سيعوّض خسارته، وألّا شيء سيُعيد نايا إلى الحياة. ومع ذلك يعتبر أنّ "علينا أن نبدأ من نقطة، أعرف جيداً أنّه لو تمّ توقيف كلّ مطلقي النار فلن تعود نايا ولكن أقلّه سننجح في إبعاد كأس الموت والمرارة عن أولاد آخرين وأن نُجنّب عائلاتهم الوجع والحرقة التي ألمّت بنا، فكتب على ابنتنا أن تموت ليفرح آخر بنجاح ابنه".
الطفلة نايا حنا
حمل جان صليبه ومضى في طريق وجعه، ولم يكن سهلاً عليه أن يرى طفلته التي أعطاها الحياة تُسلب منه لأتفه الأسباب. ما عاشه لا يتمنّاه لعدوه، يقول "أقسى شعور أن يدفن الوالد ابنه أو ابنته، أصعب شيء أن تدفن ابنتك وتشهد على وفاتها. لحظة واحدة كانت كفيلة أن تقلب حياتنا رأساً على عقب، كانت نايا كلّها فرح ومرح وفجأة انتهت حياتها بلحظة، "ما في أصعب من هيك".
من جهته، يؤكّد النائب عبد المسيح أنّ "اقتراح القانون الذي تقدّم به نال موافقة معظم القوى، ونحن في انتظار تشكيل حكومة جديدة حتّى نتمكّن من الضغط لإدراجه على جدول المجلس بغية إقراره بأسرع وقت ممكن. نحن نعول على ذلك لأنّه الحلّ الوحيد لمحاربة ظاهرة إطلاق النار".
"الله لا يذوّق الكأس لحدا"
كانت المرّة الأولى التي يتحدّث بها جان إلى الإعلام، لديه الكثير ليقوله وفي داخله أنين لا يستكين. الوجع "يعيش في صاحبه" ولن يعرف قساوته إلّا مَن تذوّق الكأس نفسه.
لا يُخفي جان أنّ "الـ 24 يوماً التي قضيناها في المستشفى "كانت قد عمري كلّه"، ولم أدعُ على مطلق النار دعوة واحدة، كنت أردّد في نفسي سيحاسبه الله، ما أريده أن تقوم نايا بالسلامة. كانت وحيدتنا وكانت الحياة أمامها قبل أن تؤخذ منّا بالعنوة والجهل".
وعن سؤاله عن السبب لعدم التوصّل لتحديد الجهة أو المبنى الذي خرجت منه الرصاصة التي قتلت نايا، يُجيب بصراحة "وقت بدهم بيعرفو، ووقت ما بدهم ما بيعرفو". اليوم فقدت الأمل في إمكانية اكتشاف هوية الفاعل بعد أن دمّرت الحرب على لبنان المباني وقضت على الكاميرات التي كانت متواجدة هناك، والأمل في الحصول على أيّ داتا. لذلك أعرف أنّ إيجاد الفاعل أصبح حلماً مستحيلاً ولن نعرف من أطلق النار".
الطفلة نايا حنا
ويقولها عبد المسيح بصراحة عند سؤاله عن السبب وراء عدم تطبيق القانون "الثغرة الأولى تكمن في تدخّل السياسة بالقضاء، وتدخّل السياسة لإطلاق سراح الموقوفين، إذ تتلقّى القوى الأمنية أو القضاة عشرات الاتّصالات لإطلاق سراح الموقوف".
ويأسف جان للفوضى التي نعيشها، وللممارسات المتناقضة التي تجعلك تقف مذهولاً غير مصدّق. يستذكر يوم أصيبت نايا في المخيم، بقي محجوزاً في مغفر الدرك لأكثر من 7 ساعات في انتظار إرسال النشرة الخاصّة به، وبينما كان يعيش وجعه وخوفه ويدعو الله لإنقاذ ابنته، كان الدرك يحتجزونه للتأكّد من نشرته عوض البحث عن مطلق النار الذي أودى بحياة ابنته.
ولأنّنا نعيش في بلد تحكمه الأحزاب والوساطات، كان اقتراح عبد المسيح يقضي بمحاسبة كلّ من "المسبّب وصاحب الحفل والمتعاون والمغطّي والمحرّض وينالون جميعاً العقوبة نفسها، لأنّهم كلّهم متواطئون ومشاركون في الجرم". لذلك ارتأى أن تكون هناك صرامة في القوانين على حدّ قوله، "حتى يتربّى الناس"، إذ ينصّ اقتراح القانون على توقيف كلّ شخص حتّى صاحب المبنى الذي تمّ إطلاق النار منه ليكون وسيلة ضغط لملاحقة الفاعل وكلّ متورّط أو مشارك في هذه الجريمة.
ونظراً لضعف ثقافة التبليغ في لبنان، حيث يُنظر إلى إطلاق النار على أنّه تقليد متوارث منذ الأجيال السابقة، فإنّ الحاجة أصبحت ملحّة لتعزيز حملات التوعية وتشجيع المواطنين على الإبلاغ عن هذه الحوادث. ويؤكّد المصدر المتابع للملف أن توثيق حالات إطلاق النار عبر تصوير الفاعلين وإرسال الأدلة إلى الجهات الأمنية يعدّ خطوة ضرورية لحماية المجتمع من مخاطر هذه الظاهرة والحدّ من تكرارها في المستقبل. فالتوعية تأتي في المقام الأول، يليها دور المواطن في الإبلاغ وتوثيق المخالفات لضمان معالجتها بفعالية.
معيار القانون عدالته
من جهته، يرى أبي علام أنّ "معيار القانون هو عدالته" ومن المفترض أن يواكب التشريع تطورات المجتمع وسلوكياته. ومن هذا المنطلق، يؤكّد الحاجة إلى مراجعة شاملة للقوانين المنظمة لحيازة السلاح، بحيث تؤخذ في عين الاعتبار هذه المتغيرات، إلّا أنّ أيّ تحرّك جدّي في هذا الاتجاه لا يزال غائباً حتى اليوم.
وفي هذا السياق، أعد أبي علام وثيقة قدّمها إلى القيادات المحلية، التي بدلاً من أن تعمل على فرض القانون، تمارس ضغوطًا لإطلاق سراح الموقوفين في قضايا تتعلّق بالسلاح غير الشرعي، وهو ما يعدّ تجاوزاً واضحاً لسلطة القضاء، وبالتالي عوض أن تلعب هذه القيادات دوراً في حماية القانون تقوم بانتهاكه. ويشدّد على أنّ هذه القيادات، إن كانت جادّة في خدمة المجتمع، فعليها أولاً الالتزام بعدم التدخل في المسار القضائيّ، بما يضمن تطبيق القانون بعيداً عن أيّ اعتبارات سياسية أو طائفية.
كما يدعو أبي علام إلى إطلاق حملة شاملة تتضمّن جوانب توعوية وقانونية، تهدف إلى تحميل جميع الأطراف، بما في ذلك شيوخ العشائر، مسؤولياتهم في مواجهة ظاهرة انتشار السلاح غير الشرعي. ويرى أن تسليط الضوء على مخاطر هذه الظاهرة قد يشكّل رادعاً أخلاقياً واجتماعياً للحدّ من استخدامها العشوائيّ، قبل أن يتدخّل القانون لمحاسبة المخالفين ورفع الغطاء السياسيّ والحزبيّ عنهم.
لا يُخفي أبي علام أنّ التطوّرات السياسية، سواء على الصعيد الداخلي أو الإقليمي، تؤثر بشكل مباشر على سوق السلاح في لبنان، الذي يعتمد على مصادر متعدّدة. فمع تصاعد المخاوف من اندلاع نزاعات، يزداد إقبال الأفراد على اقتناء الأسلحة بدافع الحماية، حتّى وإن كانت هذه الحماية مجرّد وهم.
إلى جانب ذلك، يسهم ضعف الرقابة على الحدود في تسهيل تدفق السلاح، وهو ما تجلّى بوضوح بعد سقوط نظام الأسد، حيث شهد لبنان تدفّقاً كبيراً للأسلحة بأسعار زهيدة. فعلى سبيل المثال، انخفض سعر بندقية الكلاشينكوف من نحو 1000 دولار إلى 50 دولاراً فقط، ما يعكس حجم الفوضى في تجارة السلاح غير الشرعي داخل البلاد.
الرصاص الطائش ( تصوير حسام شبارو)
تراخيص الأسلحة لشراء ولاءات الناس
في ظلّ تدهور الوضع الأمني وتراخي تطبيق القوانين، وانتشار السلاح المرخص وغير المرخص، تفاقمت ظاهرة إطلاق النار بشكل ملحوظ في لبنان. وكشفت دراسة أجرتها "الدولية للمعلومات" في الفترة ما بين 2017 و2023 أنّ المتوسط السنوي لضحايا الرصاص الطائش بلغ 8 قتلى و56 جريحاً.
ويعترف الباحث في "الدولية للمعلومات" محمّد شمس الدين أنّه "رغم وجود القانون الرقم 71/2016، فإنّه لم يُحدث التأثير المنشود في الحدّ من هذه الظاهرة التي تواصل الانتشار في المجتمع اللبناني. ويتّضح أنّ القوى الأمنية لم تُظهر حزماً في تطبيق القانون، ما يستدعي ضرورة تعزيز الإجراءات القانونية وزيادة العقوبات لضمان التنفيذ الفعلي".
ويرى أنّه "مع توفّر أسواق غير قانونية لشراء الأسلحة في بعض المناطق، تظلّ أرقام الأسلحة غير المرخّصة غير دقيقة، حيث تشير التقديرات الرسمية إلى امتلاك 35 ألف قطعة سلاح مرخّصة. ومن المؤسف أنّ البعض يلجأ إلى استخدام تراخيص الأسلحة لشراء ولاءات الناس، ما يعمّق المشكلة".
مصادر التسلح في لبنان
يتناول الباحث والمحلل السياسي الدكتور باسم عساف جذور ظاهرة التسلّح في لبنان، مشيراً إلى أنّ الحرب اللبنانية كانت المحرّك الأساسي لانتشار السلاح. وبرأيه، فقد شكّلت المنظمات الفلسطينية والأحزاب اللبنانية في تلك الحقبة المصدر الرئيسي لهذا الانتشار، حيث جرى توزيع الأسلحة على المناصرين والمنتمين بشكل عشوائيّ، ما أدّى إلى تفشّي الظاهرة على نطاق واسع.
ويؤكّد عساف أنّ غياب الرقابة والفوضى التي سادت آنذاك ساهمت في تفاقم المشكلة، حيث أصبح بيع السلاح في الشوارع متاحًا للجميع دون قيود. كما أنّ الصراعات المناطقية التي شهدها لبنان في الماضي عزّزت هذا الواقع، إذ تمّ توزيع الأسلحة بشكل غير منظّم، حتى بات وجودها في كلّ منزل أمرًا شائعًا.
كذلك تسهم الأوضاع الأمنية غير المستقرّة في المنطقة في تصاعد عمليات التهريب بشكل ملحوظ، وهو ما تجلّى بوضوح خلال المرحلة التي أعقبت سقوط نظام الأسد. فقد شهدت تلك الفترة تدفّقاً كبيراً للأسلحة المهربة من سوريا إلى لبنان، حيث تمّذذ بيعها بأسعار زهيدة للغاية، إذ تراوح سعر بعض القطع بين 50 و100 دولار أميركي، وفقاً لنوع السلاح.
ويُعزى انتشار هذه التجارة غير المشروعة، خصوصاً على الحدود، إلى عاملين أساسيين: الأول تحقيق مكاسب مالية سريعة، والثاني التخلّص من الأسلحة لتفادي المساءلة القانونية. أمّا في ما يتعلّق بالسلاح "أم 60"، فقد كان في الأصل بحوزة المنظمات الفلسطينية وبعض ثكنات الجيش اللبناني التي تعرّضت للاستيلاء خلال الحرب، ليتم لاحقًا بيعه نتيجة حالة الفوضى التي سادت تلك الحقبة.
في مقلب آخر، يعبّر الدكتور عساف عن استغرابه الشديد إزاء التناقض الصارخ الذي تشهده مدينة طرابلس، المعروفة بظروفها الاقتصادية والمعيشية الصعبة، في مقابل انتشار ظاهرة إطلاق الرصاص العشوائي بأسلوب مقلق. ويتساءل: كيف لشخص يعاني من ضائقة مالية أن ينفق مبالغ طائلة على الذخيرة، إذ تصل كلفة الرصاصة الواحدة إلى نحو دولارين أميركيّين، ما يعني أن تفريغ مشط كامل يكلّف قرابة 60 دولاراً؟
ويثير هذا الواقع تساؤلات جوهرية حول الجهة التي تزوّد هؤلاء الأشخاص بالذخيرة، ومن يقف وراء تأمين هذه الكميات الكبيرة من الرصاص، في ظلّ الأوضاع الاقتصادية المتردية التي تعيشها المنطقة.
ولا يزال مشهد الفوضى الأمنية في الشمال حاضرًا في الأذهان، إذ شهدت المنطقة موجتين من إطلاق النار العشوائيّ خلال حدثين بارزين: سقوط نظام الأسد وانتخاب رئيس الجمهورية. وفي هذين الحدثين، دوّى الرصاص من أكثر من 2000 بندقية، ومع ذلك، لم يتمّ توقيف أيّ شخص على خلفية هذه الأعمال.
وقد أسفر هذا السلوك عن أضرار جسيمة، طالت الممتلكات الخاصّة والمركبات وألواح الطاقة الشمسية، فضلًا عن سقوط عدد من الجرحى. ويشير الدكتور عساف إلى أنّ بعض مطلقي النار معروفون، لكن لم يتمّ استدعاؤهم للتحقيق، باعتبار أنّه لا يمكن استدعاء شخص وترك آخر، ما يحول دون توقيف أيّ أحد".
ليس خفياً أنّ "السياسة تفسد كلّ ما تمسّه"، وهذه المقولة تنطبق تماماً على ملفّ إطلاق الرصاص العشوائي، كما يؤكّد عساف. فالتدخّلات السياسية تلعب دوراً بارزاً في عرقلة الإجراءات القانونية، حيث تُمارس ضغوط للإفراج عن الموقوفين بتهمة إطلاق النار، سواء لكسب أصوات الناخبين أو بسبب انتمائهم للأحزاب السياسية.
ويشير إلى أنّ الذين يجرؤون على إطلاق النار هم غالباً منتمون إلى جهات سياسية، لعلمهم بأنّهم يتمتعون بالحماية ولن تطالهم المساءلة. ونتيجة لهذا الواقع، لم نشهد يوماً توقيف شخص أو محاكمته فقط بسبب إطلاق النار في الهواء، ما يعزز ثقافة الإفلات من العقاب ويكرّس هذه الظاهرة الخطرة".