روسيا من الوكالة إلى الأصالة في أفريقيا... تعزيز لموقعها العالمي على حساب فرنسا

انتقلت روسيا بكل ثقلها العسكري والأمني والديبلوماسي إلى القارة الأفريقية، وتحركاتها اليوم باتت "بالأصالة" بعد أن كانت تدار "بالوكالة" عبر شركات أمنية خاصة.
فقد شهدت موسكو أول اجتماع رسمي بين وزير الدفاع الروسي أندره بيلوسوف ونظرائه من دول "تحالف الساحل"، وخلاله وقعت روسيا ودول تحالف الساحل، الذي يضم مالي والنيجر وبوركينا فاسو، على "مذكرة تفاهم في مجال التعاون الدفاعي".
وقال بيلوسوف إن بلاده تدعم موقف الدول الثلاث بشأن "ضرورة تعزيز الأمن وحماية السيادة"، وإن هذا اللقاء "يضع أسساً مهمة لمناقشة قضايا تعزيز التعاون في قطاع الدفاع".
رأي الوزير الروسي أضاف عليه نظيره المالي ساديو كامارا أن "الدفاع هو حالياً أكبر مجال للتعاون... والتهديدات الإرهابية وأنشطة الجماعات المسلحة غير الشرعية لا تزال قائمة حتى اليوم في دول الاتحاد".
هذا اللقاء الأول من نوعه، وضعه خبراء في الشؤون الأفريقية في حديثهم الى "النهار" في إطار تداعيات "خروج فرنسا من منطقة الساحل، ما أتاح المجال واسعاً للنفوذ الروسي". وأكدوا أن جيوش دول الساحل تضررت كثيراً من الخروج الفرنسي من المنطقة إذ "أصبحت تواجه التهديدات، ولاسيما منها الإرهابية، بمفردها". ما عزز من الحضور الروسي في الإقليم.
في أيلول/سبتمبر 2023، قررت مالي والنيجر وبوركينا فاسو العمل على تأسيس "تحالف دول الساحل" بعد انسحابها من مجموعة دول الساحل الخمس، التي كانت تضم إلى جانبها موريتانيا وتشاد. تبع ذلك في كانون الثاني/يناير 2024 إعلان الدول الثلاث قراراً مشتركاً بالانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا "إيكواس". وفي تموز/يوليو 2024 أعلنت هذه البلدان رسمياً عن تأسيس "تحالف دول الساحل" بهدف تعزيز التعاون والتكامل بينها، متهمة "إيكواس" بالخضوع لفرنسا.
خبيرة الشؤون الأفريقية في مركز "الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية" الدكتورة أميرة محمد عبدالحليم تقول إن دول الساحل خصوصاً والدول الأفريقية عموماً "تسعى للخروج من التبعية وسيطرة النفوذ الخارجي"، وتضيف، في معرض حديثها الى "النهار"، أن الظروف التي تعيشها هذه الدول وحالة الهشاشة والضعف المؤثر على سكانها "تزيد من القيود والتحديات التي تواجهها المجالس العسكرية في الدول الثلاث للخروج من مسار التبعية للغرب عند تعاونها مع روسيا".
من فاغنر إلى فيلق أفريقيا
لكن هذه التطورات لم تأتِ إلا بعد أن شهدت هذه الدول انقلابات عسكرية، وتسلم مجالس عسكرية الحكم، معلنة أنها تريد تحرير بلادها واقتصاداتها من الهيمنة الغربية، والفرنسية بشكل خاص نظراً الى نفوذها التاريخي في المنطقة.
في دراسة صادرة عن Georgetown Journal of International Affairs في آذار/مارس 2025، أشير إلى أن روسيا تستخدم بشكل متزايد وكلاء عسكريين خاصين، وعلى رأسهم مجموعة "فاغنر" وخليفتها "فيلق أفريقيا"، لتوسيع نفوذها في منطقة الساحل من خلال دعم الأنظمة العسكرية في مالي وبوركينا فاسو والنيجر. وعلى رغم أن هذا الدعم عزز من قوة هذه الأنظمة ومنح موسكو نفوذاً سياسياً واقتصادياً، إلا أنه "لم يُحسن الأمن في المنطقة، بل زاد من حدة العنف وعدم الاستقرار". وتضيف الدراسة عينها أن حضور "فيلق أفريقيا" في بوركينا فاسو والنيجر لا يزال ضعيفاً في مواجهة تصاعد التهديدات الإرهابية.
وفي هذا السياق، تقول الدكتورة عبدالحليم إن روسيا تسعى الى زيادة حضورها في القارة الأفريقية كجزء من استعادة دورها الدولي وتحدي النفوذ الأميركي والغربي، لكن "القدرات الروسية لا يمكن مقارنتها بنظيرتها الأميركية والصينية. فعلى رغم أن روسيا أكبر مصدر للسلاح الى القارة الأفريقية، إلا أن قوات "فاغنر" التي عملت على تنفيذ الأهداف الروسية في أفريقيا لم تمتلك قدرات مثل القوات الفرنسية أو القوات الأميركية".
واليوم، يُعدّ تولي "الفيلق الأفريقي" الذي يتبع وزارة الدفاع الروسية هذه المسؤولية "اختباراً على قدرته على تولي مهمات تشابه القوات النظامية"، خصوصاً في ظل القلق من تصاعد عمليات "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين" في عدد من المدن المالية، واستمرار عمليات خطف الأجانب بما يزيد من التهديدات.
بعد الإشكالات التي خلقتها قوات "فاغنر" بقيادة يفغيني بريغوجين، قبل مقتله في حادث طائرة، كانت موسكو قادرة على التنصل من أفعال هذه المجموعة على اعتبار أنها مستقلة ولا تخضع لأي سلطة رسمية، لكن مع "فيلق أفريقيا" تغير هذا السيناريو بالكامل، وباتت كل الأعمال التي ينفذها هذا الفيلق تأتي بناء على أوامر رسمية تصدر عن وزارة الدفاع، وهذا من الأسباب التي دفعت باتجاه عقد مذكرة تفاهم في مجال التعاون الدفاعي.
وفي مقال نشره موقع African Defense Forum الأسبوع الماضي، كشف أن "فيلق أفريقيا" يستخدم قواعد روسية جرى تجديدها في المنطقة، بينها قاعدة قرب مطار باماكو، عاصمة مالي، وأنه يخطط لإنشاء نحو 30 قاعدة وموقعاً عسكرياً في أنحاء البلاد.
لكن هل هذا يعني أن روسيا تذهب باتجاه مواجهة النفوذ الأميركي في القارة السمراء؟
عن هذا السؤال تجيب الباحثة الدكتورة عبدالحليم: "ليس بالضرورة حدوث صدام بين روسيا والولايات المتحدة في أفريقيا، بل يمكن أن تحافظ كل دولة على مصالح الأخرى، مع تأكيد كل منهما على أنها متواجدة في العديد من القضايا لحماية مصالحها".
وتشير استطراداً إلى أن الحضور الروسي لا يتعلق بمحاولات روسيا للنفوذ في القارة وموازنة الدور الأميركي فحسب، بل أيضاً "في سبيل السيطرة على الموارد".
وهنا تكمن النقطة الأساسية في الصراع الدولي المتعاظم على أفريقيا: "السيطرة على الموارد"، وهذا بدوره يطرح سؤالاً آخر عن قدرة هذه الدول على العمل باستقلالية، خصوصاً أن الانقلابات التي شهدتها دول الساحل كانت تحت عنوان التخلص من النفوذ الغربي، وتحديداً الفرنسي.
وعن هامش الاستقلالية لهذه الأنظمة العسكرية الفتية، ترى الباحثة المتخصصة في الشؤون الأفريقية أن "هناك صعوبات تعترض فكرة استقلالية القرار الوطني في هذه الدول، في الوقت الذي لا تستطيع فيه هذه المجالس حماية شعوبها وأراضيها".