العلاقات العربيّة – الروسيّة: الاقتصاد بنكهة السّياسة
تتخذ العلاقات الاقتصادية العربية الروسية طابعاً يتجاوز المصالح الاقتصادية البحتة، ليغدو أداة سياسية وجيوسياسية تُستخدَم لتعزيز النفوذ الإقليمي والدولي لكل طرف. روسيا التي تسعى إلى كسر طوق العزلة الغربية المفروضة عليها منذ اندلاع أزماتها مع الولايات المتحدة وأوروبا، وجدت في العالم العربي شريكاً استراتيجياً قادراً على مساعدتها في تنويع أسواقها وتوسيع حضورها الدولي، بينما تنظر الدول العربية إلى روسيا كبديلٍ أو موازنٍ للهيمنة الغربية، وكرافعةٍ تمنحها مساحة أوسع للمناورة في علاقاتها الدولية، ولا سيما في مجالي الطاقة والدفاع.
يساهم التعاون الاقتصادي المتنامي بين الجانبين في التأسيس لشبكة مصالح متبادلة تشمل مجالات النفط والغاز والطاقة النووية، والاستثمار في البنية التحتية والزراعة، إضافة إلى التعاون العسكري والأمني. يُقدَّر حجم التبادل التجاري بين روسيا والدول العربية بنحو 34 مليار دولار سنوياً، مع توقعات بارتفاعه إلى 50 مليار دولار في المستقبل القريب، فيما تنفذ موسكو أكثر من 400 مشروع استثماري في المنطقة بقيمة 40 مليار دولار، تتركز خصوصاً في الإمارات ومصر والعراق. وتُعَد الإمارات أكثر الدول العربية استثماراً في روسيا، بنسبة تُقدَّر بنحو 80 في المئة، وتتركّز استثماراتها في قطاعات النفط والغاز، والطاقة المتجددة، والخدمات اللوجستية، والبنية التحتية، والتكنولوجيا المتقدمة.
أما في البعد السياسي، فتعمل روسيا لتوظيف هذه الشراكات في تعزيز حضورها في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ولا سيما في سوريا والعراق والجزائر، ببناء تحالفات اقتصادية - أمنية تمنحها دوراً محورياً في موازنة النفوذ الأميركي والغربي. في المقابل، تسعى الدول العربية إلى الاستفادة من التعاون مع موسكو لتقليل الاعتماد على الشركاء الغربيين وتوسيع خياراتها الاستراتيجية، بما يضمن استقلال قرارها السياسي ويُتيح لها التكيف مع التوازنات الدولية المتغيرة.
في هذا الإطار، تشكّل "أوبك بلس" نموذجاً واضحاً للعلاقة التي تجمع بين الاقتصاد والسياسة في الشراكة العربية الروسية. من خلال هذا التكتل النفطي الذي يضم عدداً من الدول العربية إلى جانب روسيا، جرى تحويل النفط إلى أداة سياسية قادرة على التأثير في الأسواق العالمية، وفي موازين القوى الاقتصادية. ويؤدي التنسيق بين الرياض وموسكو على وجه الخصوص دوراً مركزياً في تنظيم مستويات الإنتاج والحفاظ على استقرار الأسعار، ما يتيح للدول المشاركة زيادة إيراداتها النفطية في فترات تقلب الأسعار، ويساعد روسيا على مواجهة تداعيات العقوبات الغربية بفضل ارتفاع أسعار النفط.

وإلى جانب البعد الاقتصادي، تكتسب "أوبك بلس" وظيفةً سياسيةً بارزةً ومهمة، إذ تمنح الدول المشاركة فيها قدرة جماعية على التأثير في القرار الاقتصادي العالمي، الأمر الذي تحوّل إلى ورقة ضغطٍ جيوسياسية تستخدمها الأطراف حين تقتضي مصالحها ذلك.
وتظهر التجربة أن التعاون النفطي لا يقتصر على حماية الأسواق، بل يمتد إلى بناء تحالفاتٍ تُستخدَم لتنسيق المواقف حيال ملفاتٍ إقليمية ودولية، وتعزيز التواصل السياسي بين العواصم العربية وموسكو، بما يساهم في صياغة نظامٍ أكثر توازناً في مجال العلاقات الدولية.
مع أن هذا التعاون يتيح فرصاً اقتصادية واسعة، فإنه يواجه تحدياتٍ لا يُستهان بها، من أبرزها تقلبات أسعار الطاقة، وتباين أولويات السياسات الداخلية للدول الأعضاء، فضلاً عن الضغوط الأميركية والأوروبية التي تنظر بعين القلق إلى أي توسّع في النفوذ الروسي داخل المنطقة العربية. مع ذلك، يبدو أن الطرفين ماضيان في تعميق شراكتهما، إدراكاً منهما أن التداخل الاقتصادي بات يشكّل غطاءً سياسياً يحمي مصالحهما ويعزز مكانتهما على الساحة الدولية.
في المحصلة، تُظهِر العلاقات الاقتصادية العربية الروسية، ولا سيما عبر تكتل "أوبك بلس"، كيف يمكن المنفعة الاقتصادية أن تتحوّل إلى أداةٍ سياسية فاعلة، تُعِيد رسم ملامح التوازنات في الشرق الأوسط والعالم. إنها شراكة براغماتية تنطلق من المصالح المتبادلة، لكنها تُستخدَم بحسابٍ دقيق في لعبة النفوذ الكبرى التي تتجاوز حدود الأسواق، لتطاول خرائط القوة والسيادة في القرن الحادي والعشرين.
نبض