نوبل للاقتصاد بنكهة التكنولوجيا

قررت الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم، يوم الإثنين 13 تشرين أول/أكتوبر 2025، منح جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 2025 إلى العلماء الاقتصاديين: جويل موكير من جامعة نورث وسترن الأميركية، وفيليب أجيون من كلية فرنسا ومعهد إنسياد، وبيتر هاويت من جامعة براون الأميركية. وتعرف جائزة الاقتصاد رسمياً باسم "جائزة بنك السويد في العلوم الاقتصادية"، وأنشأها البنك المركزي السويدي عام 1968 تخليداً لذكرى ألفريد نوبل، رجل الأعمال والكيميائي السويدي في القرن الـتاسع عشر، الذي اخترع الديناميت، وأسس جوائز نوبل الخمس، ثم أضيفت نوبل للاقتصاد عام 1969.
تراوحت أبحاث الفائزين بجوائز نوبل خلال الأعوام الخمسة المنصرمة في العلوم الاقتصادية ضمن مجالات عدة منها:
1) أهمية المؤسّسات المجتمعيّة في ازدهار الدول. فالمجتمعات التي تفتقر إلى سيادة القانون، والمؤسسات التي تستغل السكان، لا تُحقق النمو أو التغيير نحو الأفضل.
2) تطور دخل المرأة ومشاركتها في سوق العمل عبر القرون وأسباب التغيير، بالإضافة إلى المصادر الرئيسية للفجوة المتبقية بين الجنسين.
3) الدور الملحوظ للبنوك في الاقتصاد، ولا سيما خلال الأزمات المالية وأهمية تجنب انهيار البنوك.
4) رؤىً جديدة حول سوق العمل.
5) تحسين نظرية المزادات وابتكارهما صيغًا جديدةً للمزادات، في حين أن جائزة نوبل للاقتصاد هذا العام - آخر جوائز نوبل الست- خُصِصَت لأبحاث اقتصادية مغايرة للمواضيع التي كانت مُنِحَت على أساسها خلال الأعوام السابقة.
فقد تم منح نصف جائزة نوبل في الاقتصاد لهذا العام لجويل موكير "لتحديده المتطلبات الأساسية للنمو المستدام من خلال التقدم التكنولوجي". وقد استخدم الباحث المصادر التاريخية وسيلة لكشف أسباب تحول النمو المستدام إلى الوضع الطبيعي الجديد. أما نصف الجائزة الآخر فقد مُنح بشكل مشترك إلى فيليب أجيون وبيتر هاويت لعملهما على "نظرية النمو المستدام من خلال التدمير الإبداعي"، وقد درسا آليات النمو المستدام.
وعلّلت اللجنة منحها للجائزة بأن الفائزين أظهروا كيف يُمكن للتكنولوجيا الجديدة أن تُحفّز النمو المُستدام، إذ شهد العالم على مدار القرنين الماضيين، وللمرة الأولى في التاريخ، نمواً اقتصادياً مُستداماً. وأشارت اللجنة إلى أن هذا النمو انتشل أعداداً هائلة من الناس من براثن الفقر، وأرسى أسس الازدهار الاقتصادي العالمي. وقد شرح الفائزون من خلال دراساتهم، التي يعود بعضها إلى عام 1992، كيف يُوفر الابتكار الزخم اللازم لمزيد من التقدم.
فالتكنولوجيا، وفق ما تؤكّد اللجنة، تتطور بسرعة كبيرة، وتؤثر في المجتمعات، إذ أصبحت تحل المنتجات وأساليب الإنتاج الجديدة محل القديمة في دورة لا تنتهي. وهذا هو أساس النمو الاقتصادي المُستدام، الذي يُؤدي إلى تحسين مستوى المعيشة والصحة وجودة الحياة للناس في جميع أنحاء العالم.
وقد استخدم الباحثون المصادر التاريخية لكشف أسباب تحوّل النمو المُستدام إلى الوضع الطبيعي الجديد. وأوضحوا بأنه إذا أردنا للابتكارات أن تتعاقب في عملية ذاتية التوليد، فلا يكفي أن نعرف أن شيئاً ما يعمل، بل نحتاج أيضاً إلى تفسيرات علمية لأسباب نجاحه. وهذا التفسير لم يكن في الأغلب موجوداً قبل الثورة الصناعية، ما صعّب البناء على الاكتشافات والاختراعات الجديدة. ومن هنا أهمية انفتاح المجتمعات والأعمال على الأفكار الجديدة والسماح بالتغيير.
في موازاة ذلك، درس الباحثون أيضاً الآليات الكامنة وراء النمو المستدام، حين وضعوا نموذجاً رياضياً لما يُسمّى بالتدمير الخلاق. ويعرف هذا النمو بأنه عندما يدخل منتج جديد ومُحسّن السوق، فتخسر الشركات التي تبيع المنتجات القديمة. وبالتالي، يُمثّل الابتكار شيئاً جديداً، وبالتالي فهو إبداعي، ومع ذلك، فهو أيضاً مُدمّر، إذ تتفوق المنافسة على الشركة التي تُصبح تقنيتها قديمة.
بطرق مختلفة، يُظهر الفائزون بالجائزة كيف يُنشئ التدمير الخلاق صراعات يجب إدارتها بطريقة بناءة. وإلا أعاقت الشركات القائمة وجماعات المصالح الابتكار، ما يُعرّضها لخطر التخلف. ويُذكر بأن الاقتصادي الأميركي (من أصل نمساوي) جوزيف شومبيتر، في كتابه الشهير "الرأسمالية والاشتراكية والديموقراطية" (1942)، وصف الرأسمالية بأنها "العاصفة الدائمة للتدمير الخلاق" ليصبح بعدها مفهوم التدمير الخلاق Creative Destruction محوراً للتفكير الحديث حول كيفية تطوّر الاقتصادات. فعندما يتفجّر الإبداع ويحدث نقلة نوعية ومهمة، سواء بظهور التكنولوجيا الحديثة أم بابتكار منتج جديد في السوق أم بطفرة في الصناعة أو الطاقة، فلا شك في أن آثارها الإيجابية والمفيدة سوف تنعكس على رفاهية المجتمع. إن التدمير الخلاق هو اضمحلال الممارسات أو المنتجات أو الخدمات التي عفا عليها الزمن، والتي تتبعها ممارسات أكثر ابتكاراً وتعطيلاً. وهذا المبدأ يقوم على أن تدمير الافتراضات القديمة حتميّ حتى تتمكن الابتكارات الجديدة من الاستفادة من الموارد والطاقة الموجودة.
ويقول رئيس لجنة جائزة العلوم الاقتصادية جون هاسلر: "يُظهر عمل الفائزين أن النمو الاقتصادي لا يمكن اعتباره أمراً مسلّماً به. يجب علينا دعم الآليات التي تُشكّل أساس التدمير الخلاق، حتى لا نعود إلى الركود".
وانطلاقاً مما تقدّم، هل يُصبح منح جائزة نوبل للاقتصاد في المستقبل أيضاً خاضعاً للتدمير الخلاق، فلا نعود نرى ضرورة منحها لمواضيع أصبحت من الماضي، فتشهد نوعاً من التجديد والثورة الخلاقة، ويجري منحها لأبحاث تتصل بأثر التكنولوجيا والتقنيات المالية والذكاء الاصطناعي على النمو الاقتصادي المستدام وعلى رفاهية المجتمع؟ فتلك المجالات التكنولوجية الحديثة أصبحت ذات تأثير مباشر وسريع على حياتنا اليومية، وينبغي إدخالها عند تقييم الأبحاث والدراسات ذات البعد الاقتصادي والاجتماعي كما حصل بجائزة نوبل لهذا العام، والتي جاءت بنكهة التكنولوجيا.
**خبير اقتصادي