تشهد المدن الحديثة تحوّلاً جذرياً في نشاطها الاقتصادي، فلم تعد الحياة الحضرية مقتصرة على ساعات النهار التقليدية. فالاقتصاد على مدار 24 ساعة يمثل نموذجاً استراتيجياً يمكّن المدن من استغلال إمكانياتها الكاملة، ويخلق فرصاً جديدة للنموّ المستدام والشمولي. وتبرز المدن الخليجية الكبرى كدبي والرياض وأبوظبي وجدة كنماذج واعدة لتطبيق هذا المفهوم الثوري.

يُعرَّف الاقتصاد الليلي بأنه "الطيف الواسع من الأنشطة الإنتاجية والاجتماعية والثقافية التي تحدث من الساعة السادسة مساءً حتى السادسة صباحاً". وتشير الأرقام العالمية إلى أن هذا القطاع يحقق مساهمات اقتصادية هائلة. ففي نيويورك وحدها، يولد الاقتصاد الليلي 35,1 مليار دولار سنوياً، ويدعم 300,000 وظيفة. وفي لندن، يسهم بـ26 مليار جنيه إسترليني ويدعم أكثر من مليون وظيفة، ما يمثل 8% من الناتج المحلي الإجمالي للمدينة.

دبي: رائدة الاقتصاد الليلي الخليجي
تتصدر دبي المشهد الخليجي في هذا المجال، حيث يولّد اقتصادها الليلي 7,2 مليارات درهم سنوياً. وتشهد المدينة نمواً مستمراً في هذا القطاع، حيث سجلت إيرادات الفنادق نمواً بنسبة 10.5% في الأشهر الخمسة الأولى من 2024، لتصل إلى 8,766 مليارات درهم. واستقبلت المدينة 9,31 ملايين زائر دولي في نفس الفترة. ويُظهر سلوك الإنفاق في دبي ديناميكية مثيرة للاهتمام، حيث يبلغ متوسط إنفاق السائح 1,200 درهم في الليلة الواحدة، مع وصول إنفاق الزوار ذوي الثراء الفاحش إلى 5,000 درهم. وتشير الدراسات إلى أن 60% من السياح مهتمون بتجارب الحياة الليلية.

ميدان فورمولا-1 في أبوظبي (أ ف ب)

تركز أبوظبي على استراتيجية متنوعة تجمع بين الثقافة والترفيه والرياضة. وشهدت المدينة نموّاً بنسبة 26% في عدد الضيوف الدوليين، واستقبلت 4,8 ملايين ضيف فندقي من كانون الثاني/يناير إلى تشرين الأول/أكتوبر 2024. وحققت جزيرة ياس معدل إشغال فندقي بلغ 83% في الصيف مع زيادة 29% في الضيوف الدوليين. وتُقدر الأحداث الكبرى مساهمات اقتصادية ضخمة، حيث ولّد سباق أبوظبي للفورمولا-1 أكثر من 1,16 مليار درهم في 2023 من خلال إنفاق حاضريه. ومتوقع أن يحقق السباق إنفاقاً يتجاوز 179 مليون دولار في 2024.

الرياض: تحول جذري نحو المستقبل
تشهد الرياض تحوّلاً جذرياً في إطار "رؤية السعودية 2030"، حيث من المتوقع أن يسهم قطاع الترفيه بأكثر من 23 مليار دولار في الناتج المحلي الإجمالي بحلول 2030. وتشير التقديرات إلى أن الاقتصاد المسائي يمكن أن يولد 90 إلى 100 مليار ريال سنوياً، مع زيادة في الناتج المحلي غير النفطي بنسبة 0.4-0.5%. ويُظهر موسم الرياض تأثيراً اقتصادياً كبيراً، حيث شهد زيادة بنسبة 47.6% في الزوار الدوليين، مع حضور أكثر من 500,000 حامل بطاقة فيزا من جميع أنحاء العالم في الربع الأخير من عام 2024، ومعروف أنه يكتظ بالزائرين بين الثامنة مساءً والثانية بعد منتصف الليل.

وتشهد جدة نمواً ملحوظاً في القطاع السياحي، حيث حققت زيادة في إنفاق الزوار الدوليين بنسبة 29.5% في الربع الأول من 2025، لتصل إلى 2,4 مليار ريال. وتستضيف المدينة إلى جانب مكة والمدينة نحو 60 مليون زائر سنوياً.

الرياض ليلاً (أ ف ب)

فرص عمل وتوظيف
يُعدّ الاقتصاد الليلي مصدراً مهماً لخلق الوظائف، خاصة للشباب والنساء. ففي السعودية، متوقع أن تؤدي اللوائح الجديدة التي تسمح للقطاع الخاص بتمديد ساعات العمل ليلاً إلى استحداث 45,000 وظيفة مباشرة في قطاعي المطاعم والتجزئة، و20,000 وظيفة غير مباشرة.

ويسهم الاقتصاد الليلي في تنويع مصادر الدخل للمدن، حيث يقلل الاعتماد على القطاعات التقليدية. وتشير البيانات إلى أن المطاعم يمكن أن تشهد زيادة بنسبة 7-9% في معدل دوران الأعمال السنوي، الذي يمكن أن يترجم إلى 18 مليار دولار.

إلى ذلك، تواجه المدن الخليجية تحدياً فريداً يتمثل في درجات الحرارة المرتفعة خلال النهار، ما يجعل النشاط الليلي أكثر جاذبية وعملية. في السعودية، على سبيل المثال، تشيع رؤية العائلات في رحلات استطلاعية في الحدائق المحلية بعد حلول الظلام. وهذا النمط السلوكي الطبيعي يوفر أساساً قوياً لتطوير اقتصاد ليلي مزدهر.

وتُظهر بيانات شهر رمضان في دول الخليج ديناميكية خاصة للاقتصاد الليلي. في السعودية، تضاعفت نسبة المعاملات بين العاشرة مساءً والرابعة صباحاً من 17.6% في الأشهر العادية إلى 35.0% خلال رمضان. وفي الإمارات، ارتفعت من 15.9% إلى 26.9%، بينما قفزت في الكويت من 17.1% إلى 38.2%.

رؤية المستقبل: الاستراتيجيات والتوجهات
يتطلب تطوير اقتصاد ليلي مزدهر ضمان الأمان والسلامة العامة. تستثمر المدن الخليجية استثماراًكبيراً في أنظمة الأمان الذكية والإضاءة المتطورة لضمان بيئة آمنة للجميع. وتُعدّ خدمات النقل الليلية عنصراً حيوياً لنجاح الاقتصاد على مدار الساعة. لندن، على سبيل المثال، وظفت حوالي 500 شخص إضافي لتشغيل خدمة مترو الأنفاق الليلية. ويتطلب النجاح في هذا المجال تخطيطاً حضرياً شاملاً يراعي احتياجات النشاط الليلي. أكثر من 80 مدينة حول العالم عيّنت "عمداء ليليين" أو أنشأت إدارات مخصّصة لإدارة النظام البيئي الليلي.

تستفيد المدن الخليجية من التطورات التكنولوجية لتعزيز تجربة الاقتصاد الليلي. من المنصات الرقمية للطلبات إلى أنظمة الدفع الذكيّة، تسهم التكنولوجيا في تحسين الكفاءة وتعزيز رضى العملاء. تسعى المدن الخليجية إلى تطوير نماذج اقتصادية ليلية مستدامة تحترم البيئة وتوازن بين احتياجات مختلف شرائح المجتمع.

وتطوّر المدن الخليجية شراكات استراتيجية مع القطاع الخاص والمنظمات الدولية لتبادل الخبرات وأفضل الممارسات، وشبكة المدن 24 ساعة التي أطلقتها ماستركارد مثال على هذا التعاون.

أخيراً، يمثل اقتصاد 24/7 فرصة استراتيجية للمدن الخليجية لتعزيز نموّها الاقتصادي وتحسين جودة الحياة لسكانها. مع الاستثمارات الضخمة في البنية التحتية والتكنولوجيا، والموقع الاستراتيجي، والرؤى الطموحة، تتمتع هذه المدن بإمكانيات هائلة لتصبح مراكز عالمية للاقتصاد الليلي.

إن النجاح في هذا المجال يتطلب نهجاً متكاملاً يجمع بين التخطيط الحضري الذكيّ، والاستثمار في التكنولوجيا، وضمان الأمان والسلامة، وتطوير شراكات فعالة بين القطاعين العام والخاص. مع الاستمرار في هذا المسار، يمكن للمدن الخليجية أن تحقق نقلة نوعية في مفهوم الحياة الحضرية وتصبح نماذج يُحتذى بها عالمياً في مجال الاقتصاد على مدار الساعة.