عام بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان: الاقتصاد بين التعافي المحدود والتحديات الكبرى

شهد لبنان في 23 أيلول/ سبتمبر 2024 هجوماً إسرائيلياً واسعاً، فبدأت مرحلة قاسية استمرت أشهراً وانعكست سلباً على اقتصاده. هذه الحرب خلّفت أضراراً عميقة على مختلف القطاعات، من البنية التحتية إلى الإنتاج والخدمات. واليوم، وبعد مرور عام على اندلاعها، يُطرح سؤال جوهري: ماذا تبدّل في الاقتصاد اللبناني؟
على المستوى السياسي، شكّل انتخاب جوزف عون رئيساً للجمهورية وتكليف نواف سلام تشكيل حكومة جديدة محطة مفصلية. حكومة رفعت شعار الإصلاح وإعادة بناء مؤسسات الدولة بعد عامين من الشلل السياسي والأمني. هذا التحوّل أعاد بعض الأمل بإمكانية فتح الباب أمام التعافي الاقتصادي.
أما على الأرض، فما زال الواقع الاقتصادي معلّقاً بين تحسّن الوضع الأمني واستمرارية الإصلاحات. التوقعات الدولية، ولا سيما من البنك الدولي، تشدد على أن أي انتعاش يتوقف على خطوات إصلاحية ملموسة. وبين الفرصة والتحدّي، يجد لبنان نفسه اليوم أمام مفترق طرق جديد.
" ليس بالمستوى المطلوب"...
في حديثٍ خاص إلى "النهار، يؤكد الخبير الاقتصادي وعضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي أنيس بو دياب أنه "من دون أدنى شك، المشهد الاقتصادي، وإن كان لم يشهد بعد نمواً دائماً وفعلياً ومستداماً، إلا أنّه يظهر تحسّناً مقارنة بالعام السابق. ففي عام 2024 سجّل الاقتصاد نمواً سلبياً بنحو 7.1%. أمّا هذا العام، فكان متوقَّعاً أن يبلغ النمو الإيجابي نحو 4.1%، غير أنّ هذا الأمر لم يتحقّق حتى الآن".
ويضيف: "صحيح أنّ هناك نمواً، لكنّه ليس بالمستوى المطلوب، وقد جاء بشكل أساسي نتيجة بعض الأنشطة الاستهلاكية والسياحية".
ويشير بو دياب إلى أنّ "الخسائر التي مُني بها الاقتصاد ما زالت كبيرة، إذ نقدّرها بما يتراوح بين 13 و14 مليار دولار، سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة. وهذه الخسائر لا يُعوّضها النمو بسهولة".
بالأرقام: قطاعات متضررة...
وتسبّبت الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان بخسائر فادحة طالت مختلف القطاعات الحيوية في البلاد. فقد أصيبت الزراعة والصناعة والسياحة والاقتصاد ككلّ بنكسة كبيرة انعكست على حياة اللبنانيين ومعيشتهم.
في هذا الإطار، يلفت لـ"النهار" إلى أن "القطاعات الأساسية، ولا سيما الزراعة والصناعة والسياحة، تأثرت بشدّة. فالقطاع الزراعي مثلاً كان من أكثر المتضررين خلال الحرب، باعتبار أنّ المناطق المنكوبة، كجنوب لبنان والبقاع وعكار والهرمل، تُعدّ مناطق زراعية بالأساس. وقد بلغت خسائره المباشرة وغير المباشرة نحو مليار ومئتي مليون دولار، من بينها ما يقارب 186 مليون دولار خسائر مباشرة".
ويُتابع بو دياب: "لم يستعد القطاع الزراعي عافيته بعد، إذ ما زال جزء من الأراضي في الجنوب غير مستغل، خاصة لوقوعها ضمن مناطق محظورة عسكرياً. وحتى اليوم، لا يمكن الحديث عن أي نمو فعلي في هذا القطاع، بل إنّ الوضع أسوأ من العام السابق، لأن بعض الأراضي الزراعية لا تزال معطّلة".
ويضيف: "صحيح أنّ هناك قرضاً للبنية التحتية الزراعية من البنك الدولي بقيمة 253 مليون دولار، وقد يساهم هذا مستقبلاً في إعادة تنشيط القطاع الزراعي، لكن حتى الآن، لم تظهر أي مؤشرات واضحة على نمو فعلي فيه".
أما بالنسبة للقطاع الصناعي، يقول بو دياب: "تضرّر بشكل كبير في عام 2024، ولا سيما في المناطق التي تعرّضت لضربات متواصلة استمرّت نحو 67 يوماً. ومع ذلك، فقد بدأ يستعيد جزءاً من نشاطه تدريجياً، وسُجّل ارتفاع في الصادرات خلال النصف الأول من هذا العام يتراوح بين 800 مليون ومليار دولار مقارنة بالعام الماضي. لكن هذا التحسّن ما زال طفيفاً، إذ إن القطاع الصناعي لم يستعد عافيته بعد، بسبب مشكلات مرتبطة بكلفة التشغيل، وبالأخص أزمة الكهرباء المستمرة تاريخياً".
ويضيف: "أما القطاع السياحي، فقد كان الأفضل أداءً بين القطاعات. فالنمو الاقتصادي الذي تحقق في عام 2025 ارتبط بشكل رئيسي بالتحوّل في النشاط السياحي والاستهلاك المحلي. ففي عام 2024 استقبل لبنان نحو مليون ومئة وخمسين ألف سائح، بينما ارتفع العدد هذا العام بنسبة تراوحت بين 7 و9% ليصل إلى حوالي مليون وثلاثمئة ألف".
ويوضح بو دياب أن "حركة المطار كانت جيدة، كما أنّ السياحة الداخلية سجّلت أداء مقبولاً، على الرغم من تأخّر الموسم نتيجة الأحداث الأمنية التي وقعت قرب المطار في مطلع حزيران/ يونيو من غارات، بالتزامن مع فترة عيد الأضحى، إضافة إلى الحرب الإسرائيلية- الإيرانية التي استمرّت 12 يوماً في تموز، ما عطّل انطلاقة الموسم السياحي بشكل كامل. ومع ذلك، بقي القطاع السياحي الأفضل نسبياً، وكان له الدور الأبرز في تحريك عجلة النمو الاقتصادي".
هل وصل لبنان إلى النمو المطلوب؟
ويتابع الخبير الاقتصادي لـ"النهار": "لكن بالمجمل، لا يمكن القول إنّ عام 2025 شهد المستوى المطلوب من الإصلاحات أو النمو. صحيح أنّ هناك انطلاقة فعلية للعهد الجديد مع الحكومة، غير أنّ الإصلاحات الكاملة لم تُنجز بعد، ولم يتحقق النمو الذي يفترض أن يصل إلى 6 أو 7%"، مشيراً إلى أن "الأمر يرتبط بالقدرة على إعادة وصل ما انقطع مع المؤسسات المالية الدولية، ومع صندوق النقد والبنك الدولي، إضافة إلى استعادة السياحة العربية والخليجية، وتحديداً من السعودية التي تشكّل رافعة أساسية للاقتصاد اللبناني. وعندما يُعقد مؤتمر إعادة الإعمار، يمكن عندها القول إنّ لبنان دخل في مسار حقيقي نحو استعادة النمو الاقتصادي".
ماذا عن الاقتصاد الرسمي وغير الرسمي؟
بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة، وجد الاقتصاد اللبناني نفسه مُثقلاً بالخسائر في مختلف القطاعات الحيوية، من الزراعة والصناعة إلى السياحة والخدمات. ورغم هذه الصعوبات، يسعى لبنان اليوم إلى النهوض من خلال إصلاحات محدودة، دعم الاستثمارات، وتحريك القطاع غير الرسمي لإعادة النشاط الاقتصادي تدريجياً.
من جهته، يقول الخبير الاقتصادي والمالي جاسم عجاقة لـ"النهار" ردا على سؤال حول تقييم الاقتصاد اللبناني منذ نهاية الحرب الإسرائيلية على لبنان إلى الآن، إنَّه "يمكن القول إن الأشهر الخمسة أو الستة الأولى من هذا العام حملت نفساً جديداً، خصوصاً مع انتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل الحكومة. فقد ظهرت مؤشرات اقتصادية مهمّة وإيجابية، وعمّ جوّ من التفاؤل"، متسائلاً: "لكن، هل تُرجمت هذه المؤشرات فعلياً على الأرض؟ لا، ليس بالضرورة. إذ لم نشهد ترجمة عملية كبيرة، وإن كانت حركة الاستهلاك قد سجّلت زيادة واضحة".
ويوضح أن "الناتج المحلي الإجمالي لا يمكن تحديده بدقة بسبب غياب الأرقام الرسمية، لكن برأيي الاتجاه كان يوحي بأن الاقتصاد الرسمي لم يتمكّن بعد من الاستفادة الكاملة من الأجواء الإيجابية التي أوجدها وجود رئيس الجمهورية والحكومة"، مضيفاً: "على الصعيد المالي، حصلت بعض التحسينات المرتبطة بالموازنة العامة، غير أنها ما زالت حتى الآن على الورق ولم تدخل حيّز التنفيذ، وبالتالي لم يظهر أثرها. كذلك، هناك مجموعة من القوانين التي طلبها صندوق النقد الدولي وأُقِرّت، لكنها بدورها لم تعطِ بعد ثمارها المرجوّة".
ويُشدد عجاقة على أن "الاقتصاد الرسمي من ناحية الناتج المحلي الإجمالي، في أسوأ الأحوال، ما زال في حالة ركود ولم يحقق تقدماً ملموساً"، مشيراً إلى أنه "في المقابل، شهد الاقتصاد غير الرسمي نشاطاً متزايداً، تجلّى خصوصاً في ارتفاع حركة الاستيراد، ولا سيما في قطاع السيارات، إضافة إلى ازدياد الاستهلاك، وخصوصاً في المطاعم ومجالات الإنفاق اليومي الأخرى".
"لا إيجابية مطلقة"...
ويُتابع: "الاقتصاد غير الرسمي اتّسع بشكل ملحوظ، بينما شهد الاقتصاد الرسمي بعض المؤشرات الإيجابية في البداية، لكنها لم تُترجَم فعلياً على أرض الواقع"، كاشفاً أن "التوقعات الصادرة عن البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي بدت إيجابية، لكنني شخصياً لا أراها كذلك بالمطلق، لأنها تبقى مرهونة بتطور الأحداث مع العدو الإسرائيلي".
ويشير إلى أن "حالة الغموض وعدم اليقين التي تسيطر على المشهد تؤثر سلباً في الاقتصاد"، قائلا: "لا المستثمرون يقدمون على الاستثمار، ولا المستهلكون يتجرأون على الإنفاق في ما يتجاوز الحاجات الآنية والضرورية".
"حالة من عدم اليقين"...
رغم بعض التحسّنات الطفيفة التي شهدها الاقتصاد اللبناني مؤخراً، ما زالت التحديات الكبرى ماثلة أمامه. إذ تعيق الأزمات السياسية والأمنية والإصلاحات غير المكتملة مسار التعافي الحقيقي وتبقي حالة الغموض مسيطرة على المشهد الاقتصادي.
وفي سؤالٍ حول وجود مؤشرات على أي تعافٍ حتى اليوم بعد الحرب؟ يؤكد عجاقة لـ"النهار" أن "المؤشرات التي برزت في البداية بعد انتخاب رئيس الجمهورية كانت إيجابية جداً، لكنها تراجعت سريعاً نتيجة التعقيدات السياسية، ثم زادها الغموض المرتبط بالتطورات العسكرية بين لبنان وإسرائيل ثقلاً إضافياً"، قائلاً: "اليوم لم نعد نتحدث عن مؤشرات تعافٍ إيجابية، بل عن مؤشرات سلبية تعكس حالة من عدم اليقين".
تحديات أمام الاقتصاد اللبناني...
وعن أبرز التحديات التي لا تزال تواجه الاقتصاد اللبناني، يشير إلى أنها متعددة، "أبرزها:
1. إعادة هيكلة القطاع المصرفي وحلّ أزمة المودعين والدين العام، وهذه الملفات مترابطة، إذ إن إعلان الحكومة السابقة تعثّرها أدّى إلى انهيار الثقة بالمصارف وتجميد الودائع، وهذا التحدي أساسي، وأي عملية شطب للودائع سيكون لها تداعيات عميقة وممتدة وفق حجم الاقتطاع.
2. إعادة العلاقات مع الدول العربية بهدف جذب الاستثمارات، فالاستثمار هو وقود الاقتصاد، والدول العربية تحديداً هي القادرة على ضخّ هذا الاستثمار في لبنان.
3. إعادة هيكلة القطاع العام بشقَّيه المؤسسي والوظيفي، إذ إن تضخّم هذا القطاع يحرم القطاع الخاص من هامش النمو ويكبّله بالضرائب، ما يعيق خلق فرص العمل.
4. تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص، لأن الأموال الموجودة في القطاع الخاص يمكن استثمارها في مشاريع عامة لتحسين الخدمات العامة التي تقدم للموظفين".
ويؤكد عجاقة أن "هذه الإصلاحات، سواء تم التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي أم لا، تبقى ضرورية لتحسين وضع الاقتصاد بشكل ملموس"، قائلاً: "هناك عامل إضافي وأساسي لا يقتصر على الاقتصاد وحده، بل يطال كل مفاصل الدولة، وهو المحاسبة والمساءلة. لقد آن الأوان لاعتماد نهج المحاسبة، لأن مقولة "عفا الله عمّا مضى" لم تعد تصلح، بل تضرّ ولا تبني الثقة".
رغم بعض المؤشرات الإيجابية التي برزت في فترات متقطعة، ما زال الاقتصاد اللبناني يرزح تحت وطأة أزمات متشابكة تعرقل مسار التعافي. فإعادة هيكلة القطاع المصرفي والدين العام، وجذب الاستثمارات العربية، وإصلاح القطاع العام، تمثل تحديات جوهرية لا يمكن تجاوزها من دون إرادة سياسية واضحة.
وإلى جانب ذلك، تبقى المحاسبة والمساءلة شرطاً أساسياً لاستعادة الثقة ووضع الاقتصاد على سكة النهوض الفعلي.