قرار الفيدرالي خفض الفائدة يمنح الذهب دفعة جديدة… لكن بيانات PCE قد تعيد رسم المشهد

الأسبوع الماضي، اتخذ الاحتياطي الفيدرالي الأميركي خطوة بارزة في مساره النقدي بخفض أسعار الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس. هذا القرار لم يكن مفاجئاً للأسواق بقدر ما كان تأكيداً لكون البنك المركزي بات أكثر قلقاً من تباطؤ النشاط الاقتصادي وتراجع زخم سوق العمل، في وقت ما زال فيه التضخم أعلى من المستوى المستهدف.
ورغم ذلك، حاول الفيدرالي أن يوازن بين إرسال رسالة دعم للنمو وبين عدم التفريط بمصداقيته كمؤسسة ملتزمة محاربة التضخم، وهو ما انعكس في اعتماده مقاربة "اجتماع باجتماع" التي تتيح له مرونة أكبر في تعديل المسار بحسب المستجدات. الجدير بالذكر أن الفيدرالي أشار أيضاً إلى احتمال تنفيذ خفضين إضافيين بحلول نهاية العام، وهو ما عزز توقعات الأسواق بميل السياسة نحو التيسير، لكنه في الوقت نفسه زرع حالة من الحذر لأن هذه التوقعات مشروطة ببيانات اقتصادية لم تصدر بعد.
تأثير القرار على الأسواق
تأثير القرار على الأسواق كان سريعاً وواضحاً، بخاصة على الذهب الذي واصل مكاسبه للأسبوع الخامس على التوالي. فانخفاض أسعار الفائدة يضعف جاذبية السندات ويقلص تكلفة الفرصة البديلة، ما يدفع المستثمرين للاتجاه نحو الأصول غير المُدرة للفائدة مثل الذهب.
لكن اللافت أن هذه المكاسب لم تكن مستقرة، فقد شهد المعدن الثمين موجات من التذبذب مع عودة الدولار إلى التماسك وارتفاع عوائد السندات الأميركية في بعض الجلسات، وهو ما عكس قلق المستثمرين من أن الفيدرالي قد لا يمضي قدماً بالوتيرة التي يأملونها.
الفضة بدورها تأثرت بإيجابية ربما أكبر من الذهب، لكونها تجمع بين دور الملاذ الآمن وقيمتها كمعدن صناعي يدخل في قطاعات التكنولوجيا والطاقة المتجددة. هذا جعلها أكثر عرضة لحساسية تجاه تحركات الدولار والبيانات الاقتصادية التي تعكس الطلب الصناعي العالمي، بخاصة مع استمرار المخاوف بشأن تباطؤ النمو في الصين وأوروبا.
اقرأ أيضا: ماذا بعد خفض الاحتياطي الفدرالي الفائدة بـ0.25%؟
أما سوق السندات الأميركية فقد أظهرت تقلبات واضحة. في البداية، أدى الخفض إلى تراجع العوائد على السندات القصيرة الأجل، لكن تصريحات الفيدرالي التي أبقت الباب مفتوحاً أمام كل الاحتمالات قادت إلى إعادة تسعير في السوق، خصوصاً في السندات طويلة الأجل التي باتت أكثر عرضة لتوقعات التضخم.
هذا التباين بين المنحنيين القصير والطويل يشير إلى أن الأسواق ما زالت مترددة في تحديد ما إذا كان الفيدرالي يدخل مرحلة طويلة من التيسير أو أنه يكتفي بخفض محدود. بالنسبة إلى الدولار فإن الصورة لم تكن أقل تعقيداً. فقد تعرض للعملية المعتادة من الضعف مباشرة بعد القرار، مع رهان المستثمرين على خفض إضافي للفائدة، لكنه سرعان ما استعاد بعض الدعم بفضل تصريحات باول الحذرة وصدور بيانات اقتصادية عكست صلابة نسبية في الاستهلاك الأميركي. هذا التذبذب جعل الدولار عالقاً بين قوتين متعاكستين: توقعات التيسير من جهة، ومتانة الاقتصاد النسبي من جهة أخرى.
الأسهم الأميركية استفادت بشكل عام من إعلان الخفض، إذ رأت فيه إشارة إيجابية لدعم النمو والأرباح، لكن المزاج لم يكن متفائلاً بالكامل. فالتضخم المرتفع يظل مصدر قلق رئيسي، وأي مفاجأة في البيانات المقبلة قد تجعل الفيدرالي أقل جرأة في خفض الفائدة، وهو ما يفسر التباين بين أداء المؤشرات، إذ استفادت أسهم التكنولوجيا أكثر من القطاعات الدفاعية، بينما بقيت قطاعات مثل البنوك تحت الضغط بسبب احتمالية تراجع هوامش الربح في بيئة معدلات منخفضة.
اقرأ أيضا: كيف تأثرت أسعار النفط بخفض الفائدة الأميركية؟
الأمر لم يتوقف عند هذه الأسواق، إذ امتدت انعكاسات القرار إلى العقارات التي قد تستفيد من تراجع تكاليف الاقتراض، لكن هنا أيضاً يظل العامل الحاسم هو استمرار الضغوط التضخمية التي قد تبقي معدلات التمويل العقاري مرتفعة نسبياً مقارنة بالدورات السابقة من التيسير. أما السلع الأساسية مثل النفط والمعادن الصناعية، فهي أمام معادلة صعبة: فمن جهة، ضعف الدولار قد يمنحها دعماً سعرياً، ومن جهة أخرى فإن استمرار الضغوط التضخمية يرفع تكاليف الإنتاج والنقل ويضغط على الطلب العالمي.
العملات الرقمية عاشت وضعاً مشابهاً، إذ استفادت جزئياً من بيئة فائدة منخفضة تزيد الإقبال على الأصول البديلة، لكن القلق من تشديد اللوائح التنظيمية الأميركية والعالمية كبح شهية المستثمرين.
لماذا مؤشر الـ PCE مهم جداً هذا الأسبوع؟
في هذا المشهد، يكتسب مؤشر الإنفاق الاستهلاكي الشخصي المعدل (Core PCE) أهمية خاصة هذا الأسبوع، إذ يُعتبر المعيار الذي يراقبه الفيدرالي عن كثب لتحديد اتجاه سياسته. ما يميزه عن مؤشر أسعار المستهلكين (CPI) هو أنه يعكس بشكل أدق سلوكيات الاستهلاك الأميركي، ويستبعد العناصر الأكثر تقلباً كالطاقة والغذاء.
أهمية هذا المؤشر تكمن في كونه محدداً لمستقبل السياسة النقدية. فإذا جاءت الأرقام أعلى من التوقعات، فسترتفع المخاوف من أن التضخم أكثر ثباتاً مما يظنه الفيدرالي، وهو ما قد يدفعه إلى التريث أو حتى تأجيل الخفض التالي. هذا السيناريو سيكون سلبياً نسبياً على الذهب والفضة، لأن ارتفاع العوائد يضعف جاذبيتهما. أما إذا جاءت الأرقام منسجمة مع التوقعات أو أقل منها، فسوف يُترجم ذلك إلى تعزيز الثقة بأن الفيدرالي سيواصل الخفض بخطى أريحية، ما يمنح دفعة قوية للأصول الخطرة ويزيد من زخم المعادن الثمينة.
الدولار والعوائد الحقيقية يرتبطان ارتباطاً وثيقاً بالـPCE. فإذا ارتفع التضخم من دون رفع مماثل في أسعار الفائدة، فإن العوائد الحقيقية ستتراجع، الأمر الذي يضعف العملة الأميركية ويدعم الأصول المقومة بالدولار مثل الذهب والسلع الأخرى. لكن إذا جاءت بيانات التضخم قوية لدرجة تُجبر الفيدرالي على كبح جماح التيسير، فإن الدولار سيستفيد موقتاً على حساب هذه الأصول.
أخيراً، لا بد من الإشارة إلى أن أهمية مؤشر الـPCE تتجاوز السوق الأميركية، فهو يحدد وجهة تدفقات الأموال العالمية، ويؤثر على قرارات البنوك المركزية الأخرى التي تراقب تحركات الفيدرالي عن قرب. كما أن له انعكاسات مباشرة على اقتصادات الأسواق الناشئة التي تعتمد على استقرار الدولار وتدفقات رأس المال. لهذا السبب، فإن صدور بيانات هذا المؤشر سيكون حدثاً محورياً يتابعه المستثمرون وصناع السياسات حول العالم بدقة عالية، لأنه قد يحدد ليس فقط مسار الذهب والدولار، بل أيضاً مسار الاقتصاد العالمي في الأشهر المقبلة.
(*) كبير محلّلي الأسواق المالية في FxPro، محاضر جامعي في لبنان وفرنسا