السينما والاقتصاد: نافذة على الطموح والجشع

في عالم يتقاطع فيه الفن والواقع، لا تكتفي السينما بسرد الحكايات، بل تغوص في تفاصيل الحياة اليومية لتكشف عمّا يحرك الناس والمجتمعات: المال، السلطة، الطموح، والصراعات الدائمة. على الشاشة تتحوّل الأرقام إلى نبضات، والأسواق إلى مسرح تتراقص عليه الشخصيات، حيث لا يبقى المشاهد مجرّد متفرّج، بل يصبح شريكًا يلمس تفاصيل الاقتصاد كما لو كان يعيشه بنفسه.
فيلم The Wolf of Wall Street (2013) من إخراج مارتن سكورسيزي يجسّد هذا التقاطع ببراعة. بتكلفة إنتاجية قاربت الـ 100 مليون دولار، وإيرادات تجاوزت الـ 400 مليون عالميًا، يظهر ليوناردو دي كابريو في دور جوردان بيلفورت، من سمسار مبتدئ إلى رمز للجشع والفساد. يعرض الفيلم كيف يمكن للمال أن يحرّك الأفعال متجاوزًا القيم الأخلاقية، ويغوص في عالم الطمع والانغماس في الملذات، ليترك المشاهد أمام تساؤلات حول حدود الرأسمالية وأخلاقيات المال.
من جانبه، يوضح الدكتور خالد رمضان، الخبير الاقتصادي ورئيس المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية في القاهرة، لـ"النهار" أن مشاهدته لهذه الأفلام لم تكن مجرّد ترفيه، بل "تجربة غنية بالمعاني الاقتصادية والإنسانية".
يقول عن The Wolf of Wall Street:
"أذهلني الفيلم بتصويره لحياة الرفاهية المفرطة الممزوجة بالفساد، وكيف يمكن للثغرات في النظام المالي أن تفتح الباب أمام استغلال واسع النطاق. جوردان بيلفورت لم يكن مجرد شخصية سينمائية، بل نموذجًا حيًّا لما يحدث حين تغيب الرقابة والتشريعات. بالنسبة لي، كان الفيلم جرس إنذار بأهمية التنظيم المالي ودور البنوك المركزية في حماية المجتمع من الانهيارات".
أما عن The Big Short (2015) فيقول:
"كان درسًا اقتصاديًا مكثفًا. أعجبني كيف قدّم مفاهيم مالية معقدة ببساطة وسلاسة، من الرهون العقارية إلى المشتقات المالية، وجعلها مفهومة للمشاهد العادي. الفيلم دفعني لإعادة تقييم دور البنوك المركزية والسياسات التنظيمية، وضرورة أن تكون أكثر شفافية وصرامة لتجنب أزمات مستقبلية تشبه أزمة 2008".
وعن Parasite (2019) يضيف رمضان:
"أثر فيّ على المستوى الإنساني أكثر من الاقتصادي المباشر. جعلني أشعر بالفجوة الطبقيّة العميقة، وبالمعاناة اليومية للفقراء في مواجهة منظومة اقتصادية غير عادلة. هذا الفيلم كان بمثابة تذكير بأن الاقتصاد لا ينفصل عن حياة الناس اليومية، وأن الأرقام دائمًا وراءها قصص بشرية".
ويكمل حديثه:"هذه الأفلام لا تقتصر على الترفيه، بل تقدم رؤى تعليمية عميقة: من الأسواق المالية وكيفية عمل البنوك، إلى تداعيات الجشع المالي، وصولًا إلى انعكاسات الفوارق الطبقية على المجتمع. المشاهد الذي يراقب الأحداث بعين ناقدة يمكن أن يتعلم الكثير عن الأخطار الاقتصادية وكيفية الوقاية منها. السينما هنا تتحول إلى أداة لفهم الاقتصاد بعمق، ولإثارة نقاش مجتمعي حول المال والقيم".
ولا يقف الأمر عند هذه النماذج وحدها، إذ برزت مجموعة من الأفلام الأخرى التي تناولت الاقتصاد وأزماته:
Wall Street (1987) – بتكلفة تقارب الـ 15 مليون دولار، وإيرادات بلغت نحو 43 مليون، صوّر جشع البورصة بشعار "الجشع جيد".
Margin Call (2011) – إنتاج متواضع بتكلفة نحو 3.5 ملايين دولار، وإيرادات قاربت الـ 19.5 مليون، وثّق الساعات الأولى من انهيار 2008.
Inside Job (2010) – فيلم وثائقي بتكلفة نحو 2 مليون دولار، وإيرادات عالمية وصلت إلى 7.8 ملايين، حاز على جائزة الأوسكار.
The Big Short (2015) – بلغت تكلفته نحو 50 مليون دولار، وحقق إيرادات تجاوزت الـ 133 مليون، وقدّم قراءة ساخرة وذكية للأزمة العقارية.
Too Big to Fail (2011) – إنتاج تلفزيوني لشبكة HBO بتكلفة تقديرية بلغت نحو 12 مليون دولار، ركّز على كواليس القرارات السياسية لإنقاذ النظام المالي.
من جهة أخرى، يشدد الاختصاصي النفسي سامر أبي عبد الله لـ"النهار" على البُعد النفسي لهذه التجربة: "هذه الأفلام لها تأثير مزدوج؛ فهي تلهم البعض فهم عالم المال وتحفيز الطموح والدافع الداخلي، لكنها قد تدفع آخرين لتقليد سلوكيات غير أخلاقية عبر الملاحظة والتقليد، وفقًا لنظرية ألبرت باندورا. التكرار المستمر لهذه السلوكيات قد يؤدي إلى التطبيع النفسي أو desensitization، حيث تصبح التصرفات غير الأخلاقية مألوفة ومقبولة في وعي المشاهد".
ويضيف أبي عبد الله: "التأثير النفسي يختلف بحسب شخصية المشاهد وقيمه الأخلاقية. أصحاب القيم المتينة قد يستفيدون من الدروس الإيجابية، بينما من يركزون على المكاسب السريعة قد يميلون لتبرير الفساد. هنا يظهر ما نسميه تنافر المعرفة؛ فالمشاهد يعرف أن الفساد خطأ، لكنه يجد لنفسه تبريرات لمتابعة المكاسب التي يحققها الأبطال، مما يولّد صراعًا داخليًا بين وعيه الأخلاقي والرضا الناتج عن المكاسب الظاهرية".
ويختم: "هذه الديناميكية تجعل المشاهد أمام فرصة مزدوجة: يمكن للأفلام أن توسّع وعيه وتحفّزه على الطموح والعمل الجاد، أو أن تعزز الجشع والفساد، حسب مدى استعداد الفرد النفسي والأخلاقي وقدرته على التمييز بين الواقع والقيم".
وهكذا، تقدم السينما مزيجًا متفردًا: تعكس الواقع وتفسره وتثير التفكير، لتترك أثرًا يتجاوز الشاشة ويصل إلى حياة المشاهد ووعيه بالقيم والطموح والمال، وتحوّل كل فيلم إلى نافذة مزدوجة على الاقتصاد والنفس البشرية.