عواصم إدارية جديدة: مدن المستقبل بين الطموح والتكلفة الباهظة

اقتصاد وأعمال 05-09-2025 | 06:20

عواصم إدارية جديدة: مدن المستقبل بين الطموح والتكلفة الباهظة

تقوم فكرة العاصمة الإدارية الجديدة على تخفيف الضغط عن المدن القديمة، وتحويلها إلى مراكز تراثية أو اقتصادية أكثر تخصصاً.
عواصم إدارية جديدة: مدن المستقبل بين الطموح والتكلفة الباهظة
مخطط العاصمة الإدارية الجديدة في مصر (وكالات)
Smaller Bigger

تتجه أنظار العديد من الدول في العالم، ولاسيما في المنطقة العربية، نحو إنشاء عواصم إدارية جديدة تُبنَى من الصفر وتُصمَّم لتكون مقرات للحكم والإدارة، وكثيراً ما تأتي كبدائل للعواصم التقليدية المكتظة بالسكان والمثقلة بمشاكل الازدحام والتلوث والعجز البنيوي في البنية التحتية. هذه المدن ليست مجرد مشاريع عمرانية ضخمة، بل هي طموحات سياسية واقتصادية في آن واحد، تحمل وعوداً بتحقيق التنمية وجذب الاستثمارات، لكنها أيضاً تُثيِر جدالات واسعة بسبب تكاليفها الضخمة وجدواها في الأجل البعيد.

من الناحية النظرية، تقوم فكرة العاصمة الإدارية الجديدة على تخفيف الضغط عن المدن القديمة، وتحويلها إلى مراكز تراثية أو اقتصادية أكثر تخصصاً، فيما تنتقل المؤسسات السيادية والإدارية إلى بيئة حضرية حديثة تتوافر فيها معايير "المدينة الذكية". وكثيراً ما يُطرَح هذا النموذج كوسيلة لتحفيز النمو الاقتصادي من خلال مشاريع البنية التحتية الضخمة، وتوليد فرص عمل، وجذب مستثمرين محليين وأجانب. غير أنّ هذه الأهداف كثيراً ما تصطدم بواقع اقتصادي صعب، إذ تُلقِي التكاليف الباهظة بظلالها على الميزانيات الوطنية وتثير التساؤلات حول الأولويات.

في العالم العربي، تُعَد العاصمة الإدارية الجديدة في مصر أبرز مثال حديث. المشروع الذي يُقَام على بُعْد نحو 45 كيلومتراً إلى الشرق من القاهرة يُتوقَّع أن تبلغ تكلفته نحو 58 مليار دولار، في وقت تواجه فيه البلاد تحديات اقتصادية حادة من معدل تضخم مرتفع إلى أزمة في توافر العملات الأجنبية. الهدف الأساسي هو تخفيف الضغط عن القاهرة التي يزيد سكانها عن 20 مليون نسمة. لكن النقاش لا يزال محتدماً: هل كان من الأفضل استثمار هذه المليارات في تحديث البنية التحتية القائمة وتحسين الخدمات للمواطنين؟ خصوصاً أنّ "شركة العاصمة الإدارية للتنمية العمرانية" الموكلة بالمشروع مملوكة بنسبة 51 في المئة للجيش و49 في المئة لوزارة الإسكان، ما يثير أسئلة حول تعميم الفائدة من المشروع.

إلى جانب التجربة المصرية، طُرِحت في بعض الدول العربية أفكار مشابهة، وإن لم تصل إلى مستوى التنفيذ نفسه. في المغرب، تعمل الحكومة لتطوير الرباط عبر برنامج "الرباط، مدينة الأنوار" الذي يهدف إلى تحديث البنية التحتية الإدارية والثقافية، من دون نقل رسمي لمقر العاصمة. أما في الأردن، فقد نُوقِشت مراراً خطط لبناء مدينة إدارية جديدة شرق عمّان لتخفيف الضغط عن العاصمة، ورُصِدت لها مخصصات للبنية التحتية، غير أنّ المشروع لا يزال في بداياته ويواجه تحديات تمويلية.

ليست مصر وحدها من خاضت هذه التجربة. في أميركا اللاتينية، نقلت البرازيل عاصمتها إلى برازيليا عام 1960، سعياً إلى تنمية الداخل وربط الأطراف بالمركز. المشروع كلّف 1.5-2 مليار دولار بأسعار تلك الفترة، أي ما يعادل نحو 15-20 مليار دولار بالقيمة الحالية، وهو ما شكّل عبئاً ثقيلاً على اقتصاد البرازيل آنذاك.

وفي آسيا، تُقدِم إندونيسيا على بناء عاصمتها الجديدة نوسانتارا في جزيرة بورنيو بميزانية تقدَّر بحوالي 30-35 مليار دولار. الهدف المعلن هو مواجهة التحديات البيئية والديموغرافية في جاكرتا، التي تعاني من الغرق التدريجي. ولا تعتزم الحكومة تمويل سوى نحو 20 في المئة من المشروع، على أن يعتمد الباقي على الاستثمارات الخاصة والشراكات، وهذا يطرح تحدياً كبيراً في ظل مناخ استثماري متقلب وتراجع بعض المستثمرين مثل "سوفت بنك".

أما نيجيريا، فقد نقلت عاصمتها من لاغوس إلى أبوجا عام 1991، سعياً إلى بناء مركز إداري أكثر حيادية ووسطية، بعيداً عن الفوضى الساحلية. وعلى الرغم من أنّ التكلفة الإجمالية يصعب تحديدها بدقة، فإنها تجاوزت مليارات الدولارات على مدى عقود من الزمن، مع استمرار استثمارات كبيرة مثل إنشاء شبكة قطار خفيف بتكلفة تقارب 823 مليون دولار.

وفي آسيا الوسطى، شكّلت كازاخستان مثالاً آخر عندما جعلت من أستانة عاصمة جديدة عام 1997 بدلاً من ألماتي. المشروع مثّل استثماراً ضخماً من عوائد النفط والغاز، حوّل مدينة صغيرة إلى حاضرة عصرية ذات أبراج شاهقة ومعمار مستقبلي. وعلى الرغم من أن المدينة عُرِفت باسم نور سلطان بين عامي 2019 و2022، فقد عادت رسمياً إلى اسمها الأصلي أستانة.

تكشف هذه الأمثلة أنّ العواصم الإدارية الجديدة تحمل وجهاً مزدوجاً: فهي من ناحية مشاريع قومية كبرى قد تُحدِث نقلة في البنية التحتية وتعيد توزيع التنمية، ومن ناحية أخرى هي مشاريع مُكلِفة تُثقِل كاهل الاقتصاد وتثير تساؤلات عن الأولويات في دول تعاني في الأغلب من تحديات أساسية في التعليم والصحة والخدمات العامة.

وفي مقابل الطموحات العالية، تبقى التجربة متباينة النتائج: لم تنجح برازيليا تماماً في حل مشاكل التفاوت التنموي في البرازيل، ولا تزال أبوجا تحتاج إلى استثمارات ضخمة لتلحق بمكانتها كعاصمة، فيما تراهن مصر وإندونيسيا على أنّ عاصمتيهما الجديدتين ستُثبِتان جدواهما في الأجل البعيد. 

وبين هذه وتلك، تظل العبرة أنّ المدن لا تُبنَى فقط بالإسمنت والحديد، بل بإدارة رشيدة تستند إلى رؤية متكاملة توازن بين الطموحات السياسية والضرورات الاقتصادية والاجتماعية.

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 10/31/2025 2:00:00 PM
أشقاء الشرع.. مسؤولان بارزان في الحكومة وثالث "معاقَب"
شمال إفريقيا 10/31/2025 9:38:00 PM
 مجلس الأمن يصوت على مشروع قرار ينص على أن تتمتع الصحراء الغربية بحكم ذاتي تحت سيادة المغرب
ثقافة 10/30/2025 10:50:00 PM
بعد صراع طويل مع المرض...
اقتصاد وأعمال 10/31/2025 4:25:00 AM
استقرّ مؤشر الدولار بالقرب من أعلى مستوياته في ثلاثة أشهر مقابل العملات الأخرى ما يجعل الذهب أكثر تكلفة بالنسبة لحائزي العملات الأخرى.