من يربح في تحديد سياسة الفيدرالي الأميركي: عازف الغيتار أم لاعب الغولف؟

كُثر لا يعرفون أن رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، صاحب الاثنين وسبعين عاماً، لا يحمل شهادة دكتوراه في الاقتصاد بخلاف كُثر ممن سبقوه، أو من اعتبرها البعض شرطاً أساسياً ومفتاحاً ذهبياً لتبوؤ المنصب الاقتصادي والنقدي الأهم، ليس في الولايات المتحدة الأميركية فحسب، وإنما على صعيد الاقتصاد العالمي برمته. فبعد تخرجه في جامعة برينستون وقبل التحاقه بكلية الحقوق في جامعة جورج تاون، عمل جيروم باول بأجر ساعة متواضع، مساعد أمين مستودع في شركة لوازم مكتبية في ضواحي العاصمة واشنطن. وحتى أنه أدرج هذه الوظيفة في أوراق ترشيحه لرئاسة مجلس الاحتياطي الفيدرالي.
لم يكن باول معروفاً على نطاق واسع عندما تولى رئاسة الفيدرالي في عام 2017، وكان المحللون السياسيون مهتمين بنظرياته حيال أسعار الفائدة والتضخم أكثر من اهتمامهم بهواياته أو فرقته الموسيقية المفضلة، وهو من عشاق موسيقى الروك والفانتازيا، ويمتلك مجموعة غيتارات ويعزف عليها لتخفيف الضغط بعد يوم عمل شاق، وكان يعزف على الغيتار في أكثر من فرقة روك أند رول. وتحَدَث ذات مرة عن فكرة تأسيس فرقة موسيقية للاحتياطي الفيدرالي، والتي كان من بين أعضائها ريتشارد كلاريدا، وهو عضو في مجلس الإدارة ومغن وكاتب أغاني مشهور، ولكن للأسف، غادر كلاريدا الاحتياطي الفيدرالي عام 2022.
من هواياته أيضاً، أنه يحب ركوب الدراجات، ويُحب ربطات العنق الأرجوانية. أما لماذا اللون الأرجواني؟ لقد اتضح أن هناك سبباً سياسياً وجيهاً؛ فالديموقراطيون يفضلون ربطات العنق الزرقاء، بينما يفضل الجمهوريون اللون الأحمر. وقال بأول انه ومصرفه الفيدرالي غير سياسيين تماماً واللون الأرجواني لون مناسب لذلك.
أما الرئيس الأميركي دونالد ترامب، فينصب جل اهتمامه على نظامه الصحي وحرصه على ممارسة الرياضة، بخاصة رياضة الغولف التي تُعد الهواية المفضلة له. أما شخصيته، فتميل إلى السلوك التسلّطي والاندفاعي ويحاول دائماً إثبات أنه الأقوى في الغرفة. فهو متوتر دائماً، ومتقلب انفعالياً، وسريع الغضب، ولديه الكثير من المشاعر السلبية. وحتى الأشخاص الذين يعينهم لا يحيد معظمهم عن توجهاته ولا يخالفونه الرأي، وحتى ربما من دون اقتناع؛ إذ أن اثنين من المحافظين السبعة الحاليين أعضاء الفيدرالي الذين عينهم ترامب وهما كريستوفر والر وميشيل بومان، عارضا قرار الاحتياطي الفيدرالي الأخير الإبقاء على أسعار الفائدة ثابتة.
ويأتي الجدل بين ترامب وباول حول سياسة الفائدة، إذ دعا الرئيس الأميركي في أكثر من مناسبة إلى خفض أكلاف الاقتراض لتعزيز النمو الاقتصادي، وهو ما يعارضه رئيس الفيدرالي بدافع احتواء التضخم وإعادته إلى المستوى المستهدف عند 2%. وقد تصاعد الخلاف بين الرجلين، إذ وصف ترامب في منشور عبر منصة "تروث سوشيال"، جيروم باول بأنه متأخر ومخطئ دائمًا. كما يسعى حالياً إلى إقالة عضو الاحتياطي الفيدرالي ليزا كوك إذا لم تقدم استقالتها بنفسها على خلفية اتهامات لها بالاحتيال في الرهن العقاري. ويأتي ذلك ضمن سلسلة من الضغوط التي يمارسها البيت الأبيض على الاحتياطي الفيدرالي هذا العام في محاولة لدفعه نحو خفض الفائدة، وهو ما يزيد من حساسية الموقف مع اقتراب قرار الرئيس بشأن تعيين خليفة باول عندما تنتهي ولايته في أيار/ مايو 2026.
ويُذكر بأنه تاريخياً، أدلى العديد من الرؤساء الأميركيين بتعليقات مباشرة حول المسار الذي يجب أن يتبعه الفيدرالي بشأن أكلاف الاقتراض، إذ دعا الرئيس رونالد ريغان الفيدرالي عام 1981 إلى تقليل المعروض النقدي سعياً لخفض التضخم. ووفقاً لقانون الاحتياطي الفيدرالي لعام 1913، لا يمكن إقالة رئيس المصرف المركزي إلا لسبب وجيه، وهو ما تم تأكيده في قرار صدر عام 1935 عن المحكمة العليا، وينص على أنه لا يحق للرئيس إقالة قادة الوكالات الفيدرالية المستقلة بسبب خلافات سياسية.
ولكن، لا شك في أن التهديد بإقالة رئيس الاحتياطي الفيدرالي من شأنه مفاقمة الضغوط على الأسواق وتعميق خسائر وول ستريت، بعدما دفعت الرسوم الجمركية الأسهم إلى مستويات متدنية بالفعل. كما أن القانون لا يمنح الرئيس ترامب الحق في إقالة باول لحين انتهاء ولايته. كما ان إقالته من شأنها تقويض خطط رئيس الفيدرالي الرامية إلى تعزيز النمو الاقتصادي، وهو الذي يسعى جاهداً لحماية الاقتصاد الوطني من تداعيات الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس والتي تُهدد بارتفاع التضخم.
وقد كان الأبرز خلال الأسبوع المنصرم هو اختتام الندوة السياسة الاقتصادية السنوية للمصرف الاحتياطي الفيدرالي فعالياتها في "جاكسون هول" في ولاية وايومنغ، حيث أشار رئيس الاحتياطي الفيدرالي في خطابه إلى أن المصرف يتجه على الأرجح لتيسير سياسته النقدية في أيلول/ سبتمبر، بعد أن أبقى سعر الفائدة المرجعي من دون تغيير طوال الأشهر الثمانية الأولى من العام. ولفت باول إلى "تحول في توازن الأخطار" قد يستدعي تعديل السياسة النقدية، مشيراً الى أن بيانات التوظيف لشهر تموز/يوليو أظهرت نمواً بوتيرة أضعف بكثير مما تم الإعلان عنه سابقاً، محذراً من أن خسائر الوظائف قد تتسارع إذا تدهورت الأوضاع.
وفي الوقت ذاته، شدد باول على أن الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس ترامب تدفع الأسعار إلى الارتفاع بشكل ملموس، ما قد يؤدي إلى تضخم أكثر استدامة، مؤكداً حاجة الفيدرالي إلى الموازنة الدقيقة بين جانبي تفويضه المزدوج. كما أشار إلى إدخال تعديلات على إطار السياسة النقدية، بالتراجع عن النهج المتبع خلال عام 2020 القائم على التسامح مع تجاوز التضخم للمستوى المستهدف، موضحاً أن التشديد الاستباقي قد يظل مبرراً إذا ما شكلت قوة سوق العمل تهديداً لاستقرار الأسعار، ما يوحي أننا سوف نشهد نقاشاً محتدماً عندما يجتمع مسؤولو السياسة النقدية في واشنطن يومي 16 و17أيلول بشأن وتيرة الخفض المناسبة.
وعليه، يأتي الصدام بين شخصيتين أحدهما يتسم بالحدة وسرعة الانفعال والتقلب (الرئيس ترامب)، وهذا ما لمسناه خلال الفترة المنقضية من ولايته والتي انعكست في كثير من قراراته إن على الصعيد الداخلي، أو على الصعيد الخارجي وليس أدل من ذلك قرارات رفع الرسوم الجمركية على معظم دول العالم ما أدى الى حالة من الارتباك في الأسواق وارتفاع منسوب عدم اليقين. في حين أن الثاني (باول) هو تلك الشخصية الذي، بحكم موقعه، يستند الى ما لديه من بيانات اقتصادية ومالية قد يكون أبرزها معدلات التضخم والبطالة والنمو الاقتصادي وقراءة الإشارات الاقتصادية الكلية.
فإذا كانت إشارات باول في جاكسون هول قد فتحت باب التكهنات على خفض محتمل لسعر الفائدة، حيث أن الأسواق تتوقع بشكل كبير - بحوالى 75% - خفض سعر الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس في الاجتماع القادم للاحتياطي الفيدرالي، فهل أن كلام بأول قد جاء لامتصاص فورة غضب البيت الأبيض عليه، وتسكين الوضع لحين انتهاء ولايته؟ أم أن الأرقام سوف تعزز من موقف الفيدرالي باتخاذ القرار المناسب، أكان ذلك لتيسير السياسة النقدية أم لإبقائها على ما هي عليه، وبالتالي تقديم مصلحة الاقتصاد على كلام الرئيس؟ لا شك في أن الأسابيع الفاصلة لغاية الاجتماع القادم وظهور بيانات جديدة سوف تحدد الرابح هل هو عازف الغيتار أم لاعب الغولف.