في القرن التاسع عشر، كان إدوارد لابولاي يجسّد المثال الليبرالي الفرنسي: دولة محصورة في وظائفها السيادية، ومجتمع قائم على استقلالية الفرد وقدسية الملكية. كتاباته، المتأثرة بإرث بنجامين كونستان والمفتونة بالنموذج الأميركي، جاءت بمثابة تحذير من «القدرة المطلقة» للدولة ومن ابتكار حقوق اجتماعية جديدة. لكن ضوء الأزمات الاقتصادية الحديثة وإسهامات التيارات الفكرية غير التقليدية – ما بعد الكينزية ونظرية التنظيم – أظهرت أن هذا المثال عن الحرية ليس سوى سراب: فبدلاً من حماية الفرد، يفتح نموذج الدولة الحدّ الأدنى الباب أمام الاضطراب، وعدم المساواة، وهيمنة الأقوى.

نقد لابولاي من منظور ما بعد الكينزية والتنظيم

1. دولة مصغّرة إلى الحد الأدنى: وهم تاريخي واقتصادي:
يدافع لابولاي عن فكرة أن الدولة يجب أن تقتصر على الوظائف السيادية (الجيش، القضاء، الشرطة، الدبلوماسية). لكن التاريخ الاقتصادي الحديث يبيّن أن هذا الإطار الحدودي محض وهم. وكما أوضح كينز وما بعد الكينزيين، فإن الرأسمالية غير مستقرة بطبيعتها، وتتسم بعدم اليقين الجذري، والفقاعات المالية، واختلالات مزمنة في الطلب الفعّال. فالدولة الحارسة لا تستطيع منع الأزمات ولا تحقيق استقرار اقتصادي. لقد أثبت الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن العشرين، ولاحقًا أزمة 2008، أن السوق إذا تُرك لنفسه لا يميل إلى التوازن بل إلى الانهيار.

2. الفرد المجرد في مواجهة العلاقات الاجتماعية الملموسة:
يُقدّم لابولاي الفرد ككيان مستقل، يتمتع بحقوق طبيعية وقدرات تنبغي حمايتها من تدخل الدولة. لكن هذه الرؤية المجزّأة للمجتمع تتجاهل أهمية العلاقات والمؤسسات الاجتماعية في هيكلة الرأسمالية. تؤكد نظرية التنظيم، على العكس، التسويات التاريخية (الفوردية، الكينزية، النيوليبرالية) التي تنظّم العلاقات بين رأس المال والعمل والدولة والمجتمع المدني. فالدولة، بعيداً عن كونها تهديداً بطبيعتها، تشكل عنصراً مركزياً في تنظيم الصراعات واستقرار العلاقات الاجتماعية.

3. الارتياب تجاه الحقوق الاجتماعية: رؤية محافظة:
ينتقد لابولاي «الحق في العمل» أو «حقوق المطالبة» بحجة أنها تفرض التزامات إيجابية على الدولة. وهنا تكمن حدود ليبراليته: فهو لا يعترف بأن الحرية الحقيقية تعتمد على حقوق اجتماعية ملموسة (كالوصول إلى التعليم، الصحة، السكن، والأمان الاقتصادي). وكما ذكّرنا بولاني والمنظّرون التنظيميون، فإن غياب الحماية الاجتماعية يجعل السوق «تفترس» المجتمع. فالحقوق الاجتماعية ليست أدوات خطيرة، بل هي شروط مادية لممارسة الحريات المدنية والسياسية.

4. تصور محدود للديمقراطية:
يخشى لابولاي، متأثراً بكونستان، من السيادة الشعبية المطلقة و«القدرة الكلية» لجمعية واحدة. ورغم صوابه في التشديد على فصل السلطات، فإنه يحصر الديموقراطية في آلية مؤسساتية للتوازنات، متجاهلاً عدم المساواة الاقتصادية. لكن الديمقراطية التي لا تصاحبها سياسات للحد من التفاوتات المادية تبقى هشة وخاضعة لمصالح النخب الاقتصادية. وهنا مجدداً، تُظهر المقاربة ما بعد الكينزية والتنظيمية أن المؤسسات الديموقراطية لا يمكن أن تكون مستقرة إلا إذا ارتبطت بإعادة توزيع الثروة وتنظيم اقتصادي فعّال.

5. مثالية النموذج الأميركي:
يضع لابولاي «المدرسة الفرنسية الثورية» في مواجهة «المدرسة الأميركية للحرية»، التي قدّمها كنموذج مثالي. لكن هذه الرؤية تتجاهل أن الولايات المتحدة نفسها، وبعيداً عن نموذج دولة الحدّ الأدنى، طوّرت منذ القرن التاسع عشر رأسمالية مرتبطة بقوة بالدولة (السكك الحديدية، البنى التحتية، ثم الصفقة الجديدة New Deal، ولاحقاً المجمع الصناعي العسكري). لقد نشأت الرقابة والتنظيم الأميركي على أساس مزيج من السوق والتدخل العام — وهو ما رفض لابولاي إدراكه، أسيراً لمجردات عقائدية.

صورة تعبيرية (وكالات)

لابولاي، وريث الليبرالية الكلاسيكية، يدافع عن حرية مجردة، تتمحور حول الفرد والملكية، لكنها تتعامى عن واقع الاقتصاد الرأسمالي وعلاقات القوة الاجتماعية. فشكوكه تجاه الحقوق الاجتماعية، وحصره دور الدولة في التحكيم الأدنى، ومثاليته للنموذج الأميركي، تجعله مفكراً محافظاً يخدم مصالح البرجوازية الساعية إلى الحد من التدخل العام.
في ضوء ما بعد الكينزية ونظرية التنظيم، يمكن القول إن «حرية» لابولاي ما هي إلا حرية شكلية، تتحوّل في غياب الحمايات الجماعية إلى هيمنة الأقوى واستدامة التفاوتات.

**جوزيف عازار، أستاذ في جامعة باريس دوفين.